Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أويس عبدالرحيم كنسارة

صباح القهوة

A A
•• يقول غازي القصيبي: إن البشر، عموماً وإجمالاً، وفي كل زمان ومكان، يستمرئون العيش الهادئ في ظل ما عرفوه من أنماط وأنساق وأعراف، متخوفين من كل جديد، والناس، كما قيل بحق، أعداء ما جهلوا.

•• الذي يفهم هذه الطبيعة البشرية سيتمكّن من تفسير كثيرٍ من أحداث التاريخ. فتعليم البنات مثلاً؛ كان جديداً وبُودرَ بالعداء، وأصبح بفعل التغيير النافع بديهيًّا وطبيعياً. كذلك التلفاز، والدراجة، والراديو، وهذه شواهد معروفة. ولكن الحادثة التي لا يعرفها الكثيرون وتشهد على موضوعنا، هي حادثة تحريم القهوة. نعم! نفسها -التي تشربونها مع مقالي- كانت محرمة لفترات ليست وجيزة، وكان الخلافُ الفقهيّ فيها محتدماً! فما هي قصة القهوة؟

•• انطلقت الشرارة الأولى للقصة في مكة (٩١٧هـ)، عندما لاحظ ناظر الحسبة ذات ليلة شيئاً يشربه الناس على هيئة كأس يتداولونه بينهم، فسأل عنه فقيل له: (هذا شراب اُتُّخذَ في هذا الزمان وسُمّيَ القهوة، يطبخ من قشر حبّ يأتي من بلاد اليمن، يُقال له البنّ، وقد فشا أمر هذا الشراب)، فقلق الناظر وجمع أهل العلم واثنين من الأطباء فشهدا بأن المشروب (باردٌ يابس مفسد للبدن المعتدل)، واستقر رأي العلماء على تحريم القهوة لضررها ولما يصاحبها من مظاهر. وعلى ذلك أُشهر النداء بمكة بالمنع من القهوة المذكورة، وأقيم الحد على شاربها وبائعها. لكن وبعد عام كامل؛ جاء أمر السُّلطان من مصر بالسماح بشُرب القهوة.

•• وبعد سنين عَاد تحريم القهوة مجدداً، ولكن من القاهرة؛ حيث أفتى ابن عبدالحق السُّنباطى بحُرمة شُرب القَهوة لأنها «مُسكرة»، وأثار ذلك حفيظة المناصرين للقهوة، فأنشد أحدهم:

إن أقواماً تعدّوا ... والبلا منهم تأتّى

حرموا القهوة عمدًا ... قد رأوها إفكاً وبهتا

إن سألت النص قالوا ... إنّ عبد الحق أفتَى!

•• وفي نهاية عام 1572م-968هـ صدر حكم سلطاني مفاجئ بالقاهرة، يقضي بمنع استعمال القهوة والتجاهر بشربها؛ ولتنفيذ الحكم يصف الجزيري المعاصر للأحداث: (كان العسس على الفحص وبيوتها وباعتها شديدًا جدًّا، وضربوا وأشهروا وهدموا البيوت وكسروا أوانيها المحترمة الطاهرة التي هي مال لرجل مسلم.. ولَم يبلغنا فعلهم مثل ذلك في أواني الخمر والبرش والحشيشة).

•• الشاهد أن بعض الناس يستعدي كل ماهو جديد، لمجرد أنه لم يعتدْ عليه. وقد صدق معاوية بن أبي سفيان في خطبة له حين قال (إن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأتِ). فما أحوجنا لنكون أكثر وعياً، ونخالف هذه القاعدة السلبية، قاعدة العداء لكل فكرة جديدة. دعونا نناقش أولاً، ونفهم، ولا نجرِّح ولا نُفسِّق. فقد يكون ما نرفضه -بلا سبب- في يومٍ ما: هو الطبيعي، كالقهوة، وما سواه محض نكِرة!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store