Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

ذاكرتنا التي تحترق

نظرية المؤامرة معناها عدم تحميل الأنا المريضة مسؤولياتها التاريخية، لكن لا يمكن أيضًا أن نتصور أن ما يحدث اليوم عملية عفوية وليس القصد من ورائها تدمير الميراث الإنساني وعزل العالم العربي عن الحضارة الإنسانية، وتفكيكه بسرعة غير مسبوقة على المستوى الجغرافي والتاريخي والثقافي بحيث لن تجد الأجيال القادمة شيئًا ترتكز عليه إلا صحراء قاحلة وقاتلة أيضًا، لا تثمر في النهاية إلا الخوف والجوع والقتال على بقايا البرك المائية.

A A
ما يزال في العالم العربي ما يمكن إنقاذه من تراثه الأثري الثمين الذي يتعرض اليوم للتلف المقنن.. اليونسكو، يمكنها بوسائلها الكبيرة، على الرغم من صعوباتها المالية، أن تفعل الكثير في صالح الآثار المهددة التي لم تدمر بعد. وقد بينت لجنة حماية التراث العالمي في اليونسكو، عن قدرات حقيقية في لحظات التأزم، بفضل جهودها مثلاً تم اعتماد جزء كبير من الميراث العالمي الذي كان مهملاً زمنًا طويلاً. أدرجت مثلاً مواقع النقوش الصخرية بحائل في التراث العالمي كرابع موقع سعودي.. ويعد هذا إنجازًا تاريخيًا وتراثيًا جديدًا للمملكة.. فهو فريد من نوعه كون هذه الرسوم من الآثار النادرة التي تصور الحياة اليومية للإنسان في فترة ما قبل التاريخ.. في هذه الرسومات الصخرية تعبيرات

فنية، آدمية وحيوانية وأنشطة صيد، رسمت قبل 10 آلاف سنة.

الشيء نفسه يمكن أن يقال عن سوريا التي تحوي مواقع تاريخية وأثرية شديدة الحساسية، أدرجت منظمة اليونسكو ستة مواقع منها على قائمة التراث العالمي المهدد، بعد تعرضها للخطر والقصف بفعل المعارك الجارية منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا. الكثير من الآثار التاريخية تأثرت جراء القصف أو التخريب، مثل سوقُ حلب التاريخي الذي التهمته النيران، وقلعة المدينة نفسها لم تكن في منأى عن قذائف الهاون العمياء.. حتى مئذنة الجامعُ الأموي التي يعود تاريخ بنائها للقرن الثامن الميلادي، تضررت جرّاء المعارك الضارية في محيطه. وقد حذرت منظمة اليونسكو المجتمع الدولي من كارثةٍ تاريخيةٍ ستمس سوريا، لهذا أيّدت اقتراحاً فَرنسياً أثناء دورتها السنوية في مدينة بُنوم بنه Phnom-Penh عاصمة كمبوديا، لتأسيسِ صُندوق خاصٍ للحفاظ على

الآثار السورية العريقة.

اليمن أيضًا كانت موضوع اهتمام من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). فقد أدرجت مدينتي «صنعاء القديمة» و»شبام مع سورها القديم» على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، بسبب ما تتعرض له المدن الأثرية من تخريب جراء الحرب والنهب في ظل غياب الدولة. وصنفت اليونسكو في السياق نفسه، موقع مدينة الحضر الأثري العراقي على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر بعد نشر داعش شريط فيديو يظهر عناصره يدمرون بالبنادق والمطارق آثاراً في هذا الموقع المدرج منذ 1985 على لائحة التراث العالمي، إذ يظهر مسلحان يتحدث أحدهما

قائلاً إن التنظيم أرسلهما لتحطيم الأوثان. قمة الجهل والضغينة.

الأمثلة كثيرة ولا يمكن حصرها كلها، عبر العالم.. فوضع المواقع والمدن العربية المهددة بخطر التدمير، في قوائم المحميات الثقافية الإنسانية، جميل ومهم، لكن ما جدوى ذلك إذا كان الأثر مدرجًا كموقع محمي، ويُحطم بلا رحمة، على مرأى أعين العالم. ماذا فعلت اليونسكو والمنظومة الدولية لحماية هذا الميراث الذي وضعته هي على قوائم الحماية؟ أليست لديها وسائل يمكن تفعيلها قبل فوات الأوان؟ ما نرى حدوثه اليوم هو عزل للعالم العربي وتصحيره وتفقيره

ثقافيًا، وتحويله إلى كيان ضائع، بلا حياة ولا تاريخ.

نظرية المؤامرة معناها عدم تحميل الأنا المريضة مسؤولياتها التاريخية، لكن لا يمكن أيضًا أن نتصور أن ما يحدث اليوم عملية عفوية وليس القصد من ورائها تدمير الميراث الإنساني وعزل العالم العربي عن الحضارة الإنسانية، وتفكيكه بسرعة غير مسبوقة على المستوى الجغرافي والتاريخي والثقافي بحيث لن تجد الأجيال القادمة شيئًا ترتكز عليه إلا صحراء قاحلة وقاتلة أيضًا، لا تثمر في النهاية إلا

الخوف والجوع والقتال على بقايا البرك المائية.

أستغرب اليوم الصمت الأوروبي الأمريكي وعجز اليونيسكو على الرغم من النوايا الطيبة. كيف سيكون وجه العالم لو حدث هذا التخريب في الدول المتقدمة؟ هذا كله لا يخفي مطلقًا مسؤولية المثقف العربي وسلبيته الثقيلة تجاه تاريخه وميراثه، لأن الأمر يتعلق بتاريخه الإنساني ووجدانه العميق وكينونته التي أصبحت اليوم محل اندثار وموت بطيء ونهابة مبرمجة منذ سنوات طويلة يتمّ الآن تطبيقها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store