Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

معذرة كولومبوس

هنا يأتي الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه (السيدة أمريكا..) الذي صدر قبل كتاب هاينكه بسبع سنوات ليكشف السر بقوله إن الوفود الأولى التي وصلت أمريكا عجزت "عن العودة مرة أخرى إلى مواطنها القديمة، ولذا فإن إنجازها الحضاري وفتوحاتها الجغرافية ظلت خارج السياق التاريخي والمعرفي في العالم القديم"

A A
ارتبط اسم الرحالة الاستعماري الإيطالي (كريستوفر كولومبوس) بالعالَم الجديد (أمريكا) التي وصل إليها بعد عبوره بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) وظن أنه وصل الهند، يدرك ذلك المهتمون بالرحلات والاكتشافات الذين لا تغيب عنهم تفاصيل مغامرات كولومبوس ورحلاته عبر البحار، وشغفه بالوصول إلى الهند والصين وشرق العالم بمساندة ملوك إسبانيا الذين منحوه لقبَ (أمير البحار والمحيطات). عنوان المقال جزء من عنوانِ كتابٍ صدر قبل عقد ونصف لمؤلفته (هاينكه زودهوف) وجاء بهذه الصيغة (معذرة كولومبوس.. لستَ أول مَن اكتشف أمريكا)، وعرَّبه الدكتور حسين عمران، وقد بدأت المؤلفة كتابها بالهجوم على كولومبوس بقولها «معذرة يا كولومبوس، أنت لم تكن الأول، ولم تكن أمريكا تنتظرك بِكرًا غير مكتشَفة، بل عرفتْ شواطئُها قبلك بعضًا من بحارة العالم القديم». الكتاب يأتي لتأكيد المؤكَّد فليس كولومبوس أول من وطِئتْ قدماه أمريكا حيث سبقه -بحسب المؤلفة- الفينيقيون منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، وعلى هذا يتضح بجلاء أن هناك أقوامًا سبقوه إلى أمريكا سواء عبر مياه الأطلسي أو عبر مضيق بيرنغ الفاصل بين البر الأمريكي والبر الآسيوي، والواضح أيضًا أن الواصلِين إلى أمريكا قبل كولومبوس لم يكونوا من أوروبا وحدها، فالمؤلفة تؤكد وصول أفارقة وصينيين أيضًا. المؤلفة عززت رأيها بسلسلة متعددة من البراهين الناصعة في مجالات الحياة والعلوم المختلفة ومن خلال مجموعة من القرائن والدلائل الثقافية والتاريخية، وقد عمدت «بناءً على المشاهدات في علم الفسيولوجيا وعلم تعابير الوجه إلى تحديد أنموذج الهندي الأحمر مقابل الغرباء من العالم القديم»، وأثنت على مكتشفِي أمريكا الحقيقيين الذين جاؤوا للتجارة قبل آلاف السنين من ميلاد المسيح وكانوا -كما تذكر- معلمِين ناصحِين، وكانت أفكارهم الشرارة والإلهام لتطور الحضارات الأمريكية القديمة. المؤلفة ذكرت أن من دوافع كولومبوس لركوب الأطلسي البحث عن اللآلئ والذهب والفضة خصوصًا بعد تعطيل الأتراك للطريق البري المؤدي لتوابل آسيا، ولم تتطرق للدوافع الحقيقية وراء رحلات كولومبوس عبر الأطلسي والتي منها -بحسب إيمان الحياري- في موقع (موضوع) «تحقيق الشهرة، ومن ثم الثراء على إثرها، وكما كان لتعصبه للكاثوليكية دافع للاستمرار في المضي قدمًا للعثور على طريق أخرى غير الطريق التي تعبر بلاد المسلمين، أو بلاد (المحمديين) على حد قوله»، ولم تتطرق المؤلفة كذلك لمئات الآلاف من الضحايا من السكان الأمريكيين الأصليين الذين قضى ورجاله عليهم، ولم تذكر رغبته في توسُّع المستعمرات الإسبانية، ومن أراد الاستزادة عن جرائمه فليعد إلى مقال كمال قبيسي على العربية نت (كولومبوس أخطر الدواعش..). لعل السؤال العريض الذي يرتسم الآن هو عن سر هذا الاحتفاء بكولومبوس وجعله المكتشف الحقيقي لأمريكا في حين سُبق إليها بآلاف السنين، هنا يأتي الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه (السيدة أمريكا..) الذي صدر قبل كتاب هاينكه بسبع سنوات ليكشف السر بقوله إن الوفود الأولى التي وصلت أمريكا عجزت «عن العودة مرة أخرى إلى مواطنها القديمة، ولذا فإن إنجازها الحضاري وفتوحاتها الجغرافية ظلت خارج السياق التاريخي والمعرفي في العالم القديم»، لكن كولومبوس «عاد إلى العالم القديم وتواصل مع البلاط الإسباني وعقد حبلاً متصلاً بين جانبي المحيط، وهو هنا يحقق ما لم تستطعه الأوائل، إنه (الاتصال)، وهو الإنجاز الحقيقي لكولومبوس». حقًّا.. ما أقسى جور التاريخ حين يغمط الحقَّ، ويسكت عن جرائم الغزاة ويجعلهم أبطالاً تحت تأثير سُلطة اكتشافٍ مزعومٍ!
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store