Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

مصائر النصوص الأدبية

التحول أو المسخ لفرانتز كافكا ما تزال إلى اليوم تعيدنا إلى حالة الضياع التي يتعرض لها الإنسان في كل المجتمعات حيث يسود الجشع والضغينة.. استقبله النقد بوصفه إيقونة حية عن مجتمع يموت بهدوء تاركًا المسالك مفتوحة لمجتمع ليبيرالي كان ينشأ في الصمت، يستعيد فيه الفرد حقه في الوجود.

A A
مثلما للبشر مصائر متعددة ومتنوعة لا يتحكمون فيها مهما حاولوا ذلك، هناك أيضًا مصائر للنصوص الأدبية.. نصوص تشتهر بسرعة البرق، وأخرى لا يكون لها هذا الحظ، فتظل رهينة المكتبات.. نصوص تجد من يحتويها منذ صدورها، ويذهب بها بعيدًا، وأخرى، على الرغم من قيمتها الفنية العالية، لا تجد من يوليها أي اهتمام.. مما يتسبب في إحباطات كبيرة قد تدفع بالكاتب الهش إلى الانهيار والسكتة الأدبية التي تنتهي به إلى التوقف، لأنه ظن في لحظة من اللحظات، أن روايته مثلاً ستغير، ليس فقط مصيره ولكن أيضًا مصير القارئ الذي يقتفي خطاه.

هناك حالة تشبه الشيزوفرينيا التي تصيب الكاتب فتعطله إبداعيته.. في اللحظة التي يدخل فيها في سؤال القيمة والهوس بمسألة النجاح.. ويدخل في أسئلة مؤدية إلى النفق المظلم.. ما سر نجاح روايات غيره من الكتاب؟ ربما لأنها روايات ضخمة مما سمح لها بالشهرة، فيبدأ من تدبيج منجز يتخطى عتبة الـ500 صفحة وكأن الكتابة تقاس بالوزن المادي. وينسى، قبل أن يستيقظ متأخرًا، أن هناك روايات كثيرة، صغيرة حجمًا غيرت منظور الرواية عالميًا، ودفعت بها إلى مسارات جديدة عجزت الروايات الضخمة عن فتحها.. الأمثلة حاضرة ولا يجهلها.. رواية مثل بيير وجون لغي دو موباسان التي دافع فيها الكاتب عن حقه في كتابة رواية قصيرة يقطع فيها مع النصوص الطويلة، أمام ناشره أولوندورف الذي قال له عندما قدم له رواية بيير وجون، أنها خفيفة الحجم. ناقش فكرة الضخامة والقصر في كتابة الرواية في مرافعته القيمة التي نشرها وقتها في جريدة الفيغارو (جانفي 1888) وأثبت أن الكتابة في النهاية هي الجهد الذهني الكامن الذي لا يحدده القصر أو الطول ولكن القدرة على القول المكثف الذي لا ينفصل عن عملية الغواية الأدبية والحكي.

نص سارازين لهونوري دو بلزاك الذي حوله رولان بارث إلى مادة تطبيقية لاختزاليتها الفنية وقوة نظامها القصصي.. حيث أن عملية القص في الكتابة ليست مساحة ولكنها مادة أدبية حيوية، عندما نفككها نقديًا وقرائيًا، ونعيد كتابتها ذهنيًا، نجد أنفسنا أمام نصوص لا متناهية المدى على الأقل من ناحية المعنى المتخفي. وأصبح النص ليس فقط مشهورًا ولكن مرجعًا أدبيًا حيويًا..

التحول أو المسخ لفرانتز كافكا ما تزال إلى اليوم تعيدنا إلى حالة الضياع التي يتعرض لها الإنسان في كل المجتمعات حيث يسود الجشع والضغينة.. استقبله النقد بوصفه إيقونة حية عن مجتمع يموت بهدوء تاركًا المسالك مفتوحة لمجتمع ليبرالي كان ينشأ في الصمت، يستعيد فيه الفرد حقه في الوجود.

«الغريب» لألبير كامي لم تطو صفحة العبث، ولكنها فتحتها على شيء أكثر تكثيفًا وقوة وتأثيرًا، كيف يواجه الإنسان مصيرًا معقدًا لا يتحكم فيه دائمًا، بما في ذلك ارتكاب الجريمة الفاقدة لأي معنى.

«قلب كلب» التي كتبها ميخاييل بولكاكوف في الفترة الستالينية القمعية وبين فيها كيف تخلق المجتمعات الحديثة أدوات تدمير نفسها بنفسها من خلال الأشكال القاتلة التي تنشئها وتؤسس عليها الحقيقة المطلقة، حقيقتها الخاصة التي تنافس الحقيقة الفاشية. فيلجأ النص القصير معناه القوي في السخرية المرة والجنون اللذين يتقاطعان مع المصائر الهشة للبشر.

رواية الفارس والموت للكاتب الإيطالي ليوناردو سياسيًا لم تخرج أبدًا عن هذا المدار، المتعلق بالإنسان الذي يبحث عن خلاصه المستحيل. رواية الأفغاني عتيق رحيمي حجرة الصبر الفائزة بجائزة الغونكور، لم تخرج عن هذه الأسئلة. فقد صورت باختزالية كبيرة مأساة أفغانستان دون خطابات منفوخة ولا لغة الخشب. من خلال مصيري امرأة ورجل ينتهي بها الأمر إلى الجريمة حيث لا قدر آخر غير الموت التراجيدي. يمكن أن ندرج في هذا السياق نصوصًا كبيرة غيرت النظرة إلى الوظيفة الأدبية للنصوص. القيمة العالية في مثل هذه النصوص القصيرة، لا تتجلى من تفاصيلها المباشرة، ولكن من الدرس المتخفي الذي تقوله في غفلة من الثالوث المحرم: الديني، الاجتماعي، والسياسي.

الأمر في النهاية غير مرتبط بالضخامة والقصر ولكن بالاستراتيجيات التي ينتهجها الكاتب لإنجاز نص لا يموت تحفظه الذاكرة الجمعية أبديًا، خارج يقينيات النجاح والإخفاق. الأدب هو ما يبقى أبديًا وليس ما يموت، متجاوزًا كل المعوقات. لكن هذا لا تصنعه الخيارات الفردية المسبقة، ولا حتى النقدية، ولكن قانون الكتابة القاسي الذي لا يأبه مطلقًا بما نملك من نوايا النجاح أو الفشل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store