يشرِّعون للفساد!



لا تكاد تنقشع سحابة أي ظاهرة من الظواهر الطبيعية إلا وتُخلِّف وراءها كمًّا وافرًا من الجدل الذي لا ينتهي إلا بحلول ظاهرة جديدة تُنسينا سابقتها. ولذا لا نتفاجأ حينما نعلم أن الحالات الجدلية المصاحبة والتالية لكل ظاهرة طبيعية هي بمثابة طوق النجاة لمن كان ينبغي أن توجَّه له أصابع الاتهام ويخضع للمساءلة والمحاسبة وتطالَه يد العدالة، غير أن الذي يحصل في كل مرة هو أن القضية تنحرف عن مسارها الطبيعي حين يبدأ أحد الفريقين باستحضار مبرراته من منطلق دِيني، ويستدعي الآخر حججه من منطلق علمي، ويجرُّ هذان الفريقان خلفهما حشودًا من الأتباع الذين تشغلهم الجدالات وتستهويهم التراشقات ويأخذهم حلم الانتصار وسكرة الغلبة ولا يشعرون بأنفسهم إلا وقد نحَوا بالقضية منحىً آخر بعيدًا عن موضوعها الأساس. الحكاية المتساوقة مع الحكمة الإلهية والأدلة الشرعية والقصص القرآنية هي أن أي ظاهرة طبيعية -ابتلاءً أو نفعًا أو عقوبةً- إنما جاءت وفق قَدَر إلهي وحكمة ربانية فـ»إليه يُرجَع الأمر كلُّه»، والأمر الواضح الجلي لكل ذي لُب أن هذه الظواهر أيضًا ما جاءت إلا عبر أسباب طبيعية مُشاهَدة «أنِ اضرب بعصاك البحر فانفلق..، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر..، وفجرنا الأرض عيونًا..». المؤلم في الأمر أن النتائج الكارثية التي هي (صُلب القضية) والتي كان من المفترض توجيه البوصلة إليها أصبحت هي المسكوت عنه، وعلى هذا فنحن أمام معادلة ذات حدود ثلاثة (قَدَر-سبب-نتيجة)، فالقدَر حكمة إلهية، والسبب ظاهرة طبيعية تكون بمثابة الوسيلة المفضية للنتيجة، والنتيجةُ محصلةٌ طبيعية للحدين السابقين، ومع هذا يأتي فريق ليأخذ بالحد الأول ويتجاهل الحد الثاني، ويأتي فريق آخر ويستمسك بالحد الثاني ويصادر الحد الأول، وكلا الفريقين شُغِلا ببعضهما عن الحد الثالث (النتيجة) وهو الحد الذي استفاد منه فريق ثالث ظل بعيدًا عن نقطة الصراع متواريًا خلف نقع الجدل، وذاك هو (الفساد) بكل جَلَده وثباته ومراوغاته. لعل أول الخطوات للالتفات الجاد نحو الفساد المسكوت عنه هي ترك المماحكات والتأويلات والجدليات العقيمة حول الظاهرة الطبيعية مع التحول التام لنتائجها التي كان يمكن تحجيمها والحد منها لأدنى مستوى. أمَّا أن يظل فريق يراوح حول أمر (بدهي) وهو أن هذه الظاهرة (الكارثية) حدثت بقدَر الله وحكمته، فهذا لم يأتِ بجديد، اللهم إلا إيجاد المبررات لتغوُّل الفساد، ويظل الفريق الآخر يراوح حول أمر (بدهي) أيضًا وهو أن الكارثة حدثت بسبب ظاهرة علمية (مناخية أو فلكية أو تحرك للقشرة الأرضية) فهذا أيضًا لم يأتِ بجديد، اللهم إلا إيجاد المبررات لتغوُّل الفساد، والفرق بينهما أن الأول شدد على المسبِّب والآخر شدد على الوسيلة وتعاركا حولهما، والفساد يرقب الموقف بكل اطمئنان. كِلا الفريقين مهما كانت حجيَّة مبرراتهما ووجاهتها ومنطقيتها إلا أنهما يشرِّعان -علمَا أم لم يعلمَا- للفساد؛ إذ لا فرق بين مَن يتعلُّل بقَدَر الله وحكمته للتأكيد على مؤكَّد، وبين مَن يتحجج بالظواهر الطبيعية للتأكيد على مؤكَّد، فالاشتغال بهما يأخذ حُكم التبرير للفساد. ومادام كل فريق يدور في حلبة التبرير والتذاكي والانتصار للذات فسيظل المسبِّبُ معلومًا والوسيلةُ ماثلةً والسؤالُ عن المستفيدِ عند فريق فتنةً وعند الآخر تطرفًا.


أخبار ذات صلة

قتل طفل لحساب الدَّارك ويب!!
ألا يستحون؟!
الخلايا الجذعية والحبل الشوكي
أقمار من خشب!!
;
هُويتنا وقيمنا وأخلاقياتنا العربية والإسلامية.. في خطر
رجع الصدى
لا شيء في الضوضاء.. غير وجهك يا معطاني!
القمع من المهد إلى اللحد!!
;
رحم الله معالي الدكتور عبدالله المعطاني
التحريض على الفسق والفجور
أبلة زهرة.. ومدرسة «الفتاة»
العناية بالمواهب عبر التاريخ
;
أبناؤنا.. والإنترنت المظلمة!
ذاكرة المطوفات.. ‏إضاءات تاريخية مشرقة
مقرر الكتابة الوظيفية والإبداعية.. مهلًا!
محمد بن سلمان.. و «رؤية 2030»