الأرملة المرضعة

من القصائد التي سجلت بصدقِ الشعور ورقة الإحساس وإنسانية الشاعر قصيدة (الأرملة المرضعة) للشاعر العراقي معروف الرصافي، فقد كان في يوم من الأيام جالسًا في دكان صديق له ، وبينما كانا يتجاذبان الحديث إذا بامرأة تحمل معها صحنًا تقصد صديقه صاحب الدكان ،فخرج إليها وحدثها همسًا ، فانصرفت المرأة. هذا الحدث جعل الرصافي يرسم علامات استفهام كبيرة، فاستفسر من صديقه عنها فقال له: إنها أرملة وأمٌّ ليتيمين وهما الآن جياع، وتريد أن ترهن الصحن كي تشتري لهما خبزًا، فما كان من الرصافي إلا أن لحق بها وأعطاها اثني عشر قرشًا هي كل ما يملكه في جيبه، فأخذتها بعد تردد وحياء، وغادرها عائدًا إلى دكان صديقه وقلبه يعتصر من الألم، ثم عاد إلى بيته فلم يستطع النوم ليلتها وراح يكتب هذه القصيدة التي بدأها بذكر الحادثة ووصف المرأة في اثني عشر بيتًا، منها:

لَقِيتُها لَيْتَنِي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَا .. تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا


أَثْوَابُـهَا رَثَّةٌ والرِّجْلُ حَافِيَـةٌ ..وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَـا

بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا .. وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَـا


مَاتَ الذي كَانَ يَحْمِيهَا وَيُسْعِدُهَا .. فَالدَّهْرُ مِنْ بَعْدِهِ بِالفَقْرِ أَشْقَاهَـا

وبعدها صوَّر شكواها لربها، ولوعتها لفقد عائلها، ولما ألم بها من فقر وحاجة في أبياتٍ منها:

مَا أَنْسَ لا أنْسَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُهَا ..تَشْكُو إِلَى رَبِّهَا أوْصَابَ دُنْيَاهَـا

تَقُولُ يَا رَبِّ، لا تَتْرُكْ بِلاَ لَبَنٍ ..هَذِي الرَّضِيعَةَ وَارْحَمْنِي وَإيَاهَـا

مَا تَصْنَعُ الأُمُّ في تَرْبِيبِ طِفْلَتِهَا .. إِنْ مَسَّهَا الضُّرُّ حَتَّى جَفَّ ثَدْيَاهَـا

يَا رَبِّ مَا حِيلَتِي فِيهَا وَقَدْ ذَبُلَتْ .. كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَـا

وانتهى إلى تصوير حاله هو، وإحساسه بمعاناة هذه الأرملة، فقال:

هَذَا الذي في طَرِيقِي كُنْتُ أَسْمَعُـهُ .. مِنْهَا فَأَثَّرَ في نَفْسِي وَأَشْجَاهَـا

حَتَّى دَنَوْتُ إلَيْهَـا وَهْيَ مَاشِيَـةٌ .. وَأَدْمُعِي أَوْسَعَتْ في الخَدِّ مَجْرَاهَـا

وَقُلْتُ : يَا أُخْتُ مَهْلاً إِنَّنِي رَجُلٌ .. أُشَارِكُ النَّاسَ طُرَّاً في بَلاَيَاهَـا

سَمِعْتُ يَا أُخْتُ شَكْوَى تَهْمِسِينَ بِهَا .. في قَالَةٍ أَوْجَعَتْ قَلْبِي بِفَحْوَاهَـا

هَلْ تَسْمَحُ الأُخْتُ لِي أَنِّي أُشَاطِرُهَا ..مَا في يَدِي الآنَ أَسْتَرْضِي بِـهِ اللهَ

ثُمَّ اجْتَذَبْتُ لَهَا مِنْ جَيْبِ مِلْحَفَتِي .. دَرَاهِمَاً كُنْـتُ أَسْتَبْقِي بَقَايَاهَـا

وَقُلْتُ يَا أُخْتُ أَرْجُو مِنْكِ تَكْرِمَتِي .. بِأَخْذِهَـا دُونَ مَا مَنٍّ تَغَشَّاهَـا

فَأَرْسَلَتْ نَظْرَةً رَعْشَـاءَ رَاجِفَـةً .. تَرْمِي السِّهَامَ وَقَلْبِي مِنْ رَمَايَاهَـا

وَأَخْرَجَتْ زَفَرَاتٍ مِنْ جَوَانِحِهَـا .. كَالنَّارِ تَصْعَدُ مِنْ أَعْمَاقِ أَحْشَاهَـا

وَأَجْهَشَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَهْيَ بَاكِيَـةٌ .. وَاهَاً لِمِثْلِكَ مِنْ ذِي رِقَّةٍ وَاهَـا

لَوْ عَمَّ في النَّاسِ حِسٌّ مِثْلُ حِسِّكَ لِي .. مَا تَاهَ في فَلَوَاتِ الفَقْرِ مَنْ تَاهَـا

أَوْ كَانَ في النَّاسِ إِنْصَافٌ وَمَرْحَمَةٌ .. لَمْ تَشْكُ أَرْمَلَةٌ ضَنْكَاً بِدُنْيَاهَـا

هَذِي حِكَايَةُ حَالٍ جِئْتُ أَذْكُرُهَا .. وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى الأَحْرَارَ فَحْوَاهَـا

أَوْلَى الأَنَامِ بِعَطْفِ النَّاسِ أَرْمَلَـةٌ .. وَأَشْرَفُ النَّاسِ مَنْ بِالمَالِ وَاسَاهَـا.

إنَّ هذه القصيدة التي لم أنقلها كاملة - مع عُلُوِّ قيمتها التصويرية والتعبيرية-كتبها الرصافي بدموع عينيه، فجاء التعبير عن المأساة تجسيدًا صادقًا، وتعبيرًا دقيقًا عن مشكلة اجتماعية استأثرت باهتمام المصلحين والمثقفين.

أخبار ذات صلة

اللا مركزية.. بين القصيبي والجزائري
الصناعة.. وفرص الاستثمار
ما الذي يفعله ذلك الزائر السري؟
نظرية الفاشلين!!
;
رؤية المملكة.. ترفع اقتصادها إلى التريليونات
أوقفوا توصيل الطلبات!!
نواصي #حسن_الظن
قتل طفل لحساب الدَّارك ويب!!
;
ألا يستحون؟!
الخلايا الجذعية والحبل الشوكي
أقمار من خشب!!
هُويتنا وقيمنا وأخلاقياتنا العربية والإسلامية.. في خطر
;
رجع الصدى
لا شيء في الضوضاء.. غير وجهك يا معطاني!
القمع من المهد إلى اللحد!!
رحم الله معالي الدكتور عبدالله المعطاني