Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

لقطتان ثقافيتان مع سمو ولي ولي العهد

لقطتان ثقافيتان مع سمو ولي ولي العهد

قبل ثمانية عشر عامًا تقريبًا كان صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- أميرًا على منطقة المدينة المنورة، وقد بدأ سموه بجولات

A A

قبل ثمانية عشر عامًا تقريبًا كان صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- أميرًا على منطقة المدينة المنورة، وقد بدأ سموه بجولات ميدانية على الإدارات الحكومية في المنطقة، وعُرِف عن سموه التزامه بالوقت الذي يحدّده بالدقيقة وكان من بين تلك الإدارات: الإدارة العامة للتربية والتعليم وحُدّد يوم زيارة سموه لها واجتمع مديرو الأقسام والمشرفون التربويون والكتّاب على النوافذ التي تفتح على البوابة الرئيسة لفناء مبنى الإدارة العامة وذلك لكلّ دور من الأدوار، وكان العشرات إن لم يبلغوا المئات يضبطون ساعاتهم على الوقت المحدد ويركّزون على البوابة الكبيرة، وقد تهيأ كل مدير قسم من أقسام الإدارة بإبراز أفضل ما لديه وأهمّ الإنجازات لقسمه أو إدارته وإخفاء ما عداها، ومن هؤلاء (الكاتب) حيث كان مشرفًا تربويًا للإدارة المدرسية ومديرًا لإدارة التخطيط المدرسي (الذي يُعنى بفتح المدارس ونموها وانتقالها من موقع إلى موقع في كافة الأماكن التي تتبع المنطقة)، وفي وقت زيارة سموه رأى الجميع سيارته تقف على البوابة ولم تدخل رأسًا وذلك قبل ثلاث دقائق للوقت المحدد وعندما انتهت الدقائق دخلت السيارة وتم الاستقبال وقبل جولات سموه على الأقسام تعددت العبارات التي قالها من شاهده:
- هذا الانضباط فعلًا وهذا احترام الوقت.
- الدقيقة في علم الطيران تعتبر دهرًا.
- برنامج التدريب التربوي في الأسبوع الماضي كان موضوعه إدارة الوقت وزيارة سموه تعتبر تطبيقًا فعليًا لهذا المسمى من علم الإدارة.
هذه بعض التعليقات التي سمعها الكاتب، وهنا أسجّل لقطتين ثقافيتين، إحداهما وقعت عندما بدأ سموه بالجولات على الأقسام، والأخرى وقعت بعد عدة سنوات وهما:
اللقطة الأولى: (ولماذا حتى الحناكية)؟
عندما جال سموه في أقسام الإدارة العامة للتربية والتعليم مرّ على (الكاتب) وكنتُ قد أعددتُ قائمة بأسماء المواقع التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعندما سلّم سموه قلتُ له: إنك أينما اتجهتَ تمشي على أرضٍ قد تطهّرت لمرور الرسول صلى الله عليه وسلم بها وتشاهد جبالًا قد اكتحلت برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فمثلًا لو ذهبتَ إلى بدر هناك ثلاث غزوات (غزوة بدر الأولى، وبدر الكبرى، وبدر الموعد) وذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تلك الغزوات من المدينة المنورة، ولو ذهبت إلى ينبع النخل هناك غزوة عشيرة، ومجيئك إلى خيبر حيث وقع الفتح الذي سرّ به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتذكّرك العلا بغزوة وادي القرى، وكذا لو ذهبتَ إلى وادي الفرع ستتذكّر غزوة بحران وغزوة ودّان وغزوة بني المصطلق (المريسيع )،... وحتى الحناكية (بطن نخل أو ذات نخل) حيث وقعت بها غزوة ذات الرقاع وغزوة ذي أمر وغزوة قرقرة الكدر، فعلّق سموه لماذا قلتَ حتّى الحناكية، وربّما فسّر حتى بأنها تقليلٌ من شأنها، وكان هدفي أن الطريق إلى الحناكية كانت صعب المسالك ومع ذلك وصل لها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روى سيّدنا أبوموسى الأشعري معلومات عن غزوة ذات الرقاع حيث روى الشيخان بسنديهما عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة نحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرَق، فسميت غزوة ذات الرقاع، علمًا بأنّ (حتى) تولّد في النفس شيئًا فقد ماتَ سيبويه وفي نفسه شيءٌ من (حتى)!!.
اللقطة الثانية: رامة
سألني أكثر من عضو من أعضاء مجلس المنطقة وفي يومٍ واحدٍ عن رامة حيث قالوا: إنّ سمو الأمير مقرن سأل عنها ولم يجد الإجابة وقتها، وصدفةً كنتُ قد أنهيتُ موضوعًا عن رامة وذلك عندما كنتُ أجمع المعلومات لكتابي (صيد الذاكرة الباصرة من آثار الوطن الحبيب: قائمة أو داثرة)، ولم أُرِدْ آنذاك أن أكشف (أحرق) أوراقي حتى أكمل الكتاب وفعلًا صدر الكتاب بعد زمن وأرسلتُ لسموه نسخةً منه وقد شرفت بكلمات شكر ولأن رامة رمزٌ من رموز الحبّ (حبّ الوطن) لذا فسأذكرها باختصار؛ لأنها (أي: رامة) من مولدات الحبّ وعلى نمطها جمعتُ خلال فترة طويلة مواقع بالمئات والحمد لله، سواءً ارتبطت تلك المواقع بشعراء المعلقات أو من أتى بعدهم.
رامة يقال لها رامتان وهما كثيبان رمليان متقاربان يقعان جنوب مدينة البدائع، وجنوب شرق الرس، وتوجد بعض المواقع الأثرية في رامة وذكر الشعراء رامة كثيرًا لأنها تذكرهم بقرب المدينة المنورة، وقد عثر في الموقع على مجموعة من النقوش التي استخدم في كتابتها الخط الثمودي، إضافة إلى مجموعة أخرى من الرسوم التي تعود إلى فترة ما قبل الإسلام، أما بالنسبة إلى ما ينتشر على سطح الموقع من منشآت معمارية فتعود إلى صدر الإسلام ولاسيما أن رامة محطة من محطات طريق الحج العراقي، (طريق زبيدة) المعروف الذي انتشرت عليه كثيرٌ من المحطات وبعضها تحولت إلى مدن صغيرة اندثر أغلبها مثل رامة، الربذة، زرود وكذا بقية المحطات الشهيرة على طريق زبيدة، سواءً في منطقة الحدود الشمالية أومنطقة حائل أومنطقة القصيم أومنطقة المدينة المنورة وكذا منطقة مكة المكرمة. وقد وردت رامة كثيرًا في شعر الحب والشوق إلى المدينة المنورة ولعلّ كون رامة على طريق الحاج المؤدي إلى مكة المكرمة ولذلك الطريق فروع تؤدي إلى المدينة المنورة فإن ذلك يزيد المسافرين شوقًا عند رؤيتها وتذكّر رامة بنسيم الصبا، والحِمَى، والعقيق:
صبا لنسيم الصبا إذ نفح
وأرّقهُ لمع برق لمح
واذكره عيشه بالحمى
وعهدًا تقادم سرب سنح
فحن إلى السفح سفح العقيق
فسحّ له دمعه وانسفح
وكان كتوما لسر الهوى
ولكن جرى دمعه فافتضح
فدعه ينادى طلول الحمى
ويسئل رامة عمن نزح
وكم أثارت رامة وزرود المشاعر:
ألفيتها وللحدا تغريد
برامة إن ذكرت زرود
ولاح برق بثنيات الحمى
تشيمه للأعين الرعود
فمالت الأعناق منها طربًا
كما يميل الناشد المنشود
هيهات يخفي ما به متيم
دموعه بوجده شهود
وأكثر ما خلّد رامة شعر الحبّ؛ لأن بعض المواقع تثير الشوق إذا ذكرت مثل جاذبة القلوب الحبيبة طيبة وطابة وما تذكر إلا ويذكر (اللهم حبّب إلينا المدينة..).. الحديث، وقد أكثر الشعراء من ذكر رامة فهذا المحب فوجئ بأن (بنان حبيبته أحمر) ولكنها وجدت الدفاع المناسب:
ولما تلاقينا في سفح رامةٍ
وجدت بنان العامرية أحمرا
فقلتُ خضبتِ الكف بعد فراقنا
فقالت معاذ الله، ذلك ما جرى
ولكنني لما رأيتك راحلًا
بكيت دمًا حتى بللْتُ به الثرى
فمسحتُ بأطراف البنان مدامعي
فصار خضابًا بالأكف كما ترى
كما ذُكرت سمرات رامة -شجر السلم- قديمًا وأصبح شجر السلم من الذكريات التي تذكر بالموقع وحب الوطن مهما حاول النسيان:
وأبيتُ في سمرات رامةَ سامرًا
وأظلُّ تحتَ ظِلالِها المتداني
هيهَاتَ ذاكَ زمانُ أُنْسٍ عزَّ أَنْ
أنْسَاهُ أوْ ألقَاهُ أوْ يلْقَاني
قالوا تَعَزَّ عنِ الهَوَى فأَجَبْتُهُمْ
ما أبعدَ الذِّكْرَى عن النسيانِ
وتطارَحَتْ وُرْقُ الحَمَائِمِ بالحِمَى
طَرْقَ السُّجُوعِ بِطَيِّبِ الألْحَانِ
وبكَيْتُ أوطانِي وربْعَ هَوَايَ فِي
زَمَنِ الصَّبَا حُيِّيتِ منْ أوطَاني
والأدباء يعلمون قيمة هذا المواقع ومنها رامة، ويقدّرونها حق قدرها، حيث إن عميد الأدب العربي طه حسين قد سمّى (دارته) باسم (رامة)، وكان بعض زوّاره يعتقد بأنه اسم فرنسي، ولكنه شرح لهم بأنه اسم أدبي له منزلةٌ في نفسه يقع في قلب الجزيرة العربية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store