Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

ماذا لو كنّا بجرأة سيّد البيان العربي.. الجاحظ؟!

كلما سمعت بمصادرة كتاب من الكتب، سألت عن أمرين، أولا عن سبب المصادرة. أصرّ على أن أعرف السر الكامن من وراء فعل خطير كهذا؟ هل السبب ديني مثلا؟ سياسي؟ جنسي؟

A A
كلما سمعت بمصادرة كتاب من الكتب، سألت عن أمرين، أولا عن سبب المصادرة. أصرّ على أن أعرف السر الكامن من وراء فعل خطير كهذا؟ هل السبب ديني مثلا؟ سياسي؟ جنسي؟ ثانيا، عن الهيئة الاعتبارية التي تقف وراء المنع، هل هي رقابة دولة؟ أم رقابة أفراد؟ قد تكون المحصلة واحدة في النهاية، لكن إذا امتلكت الدولة –أي دولة- بعض المشروعية التي تسمح لها بذلك، فالمنع الفردي لا يملك أي حق قانوني. أعرف حالات كثيرة كانت فيها الدولة أكثر تسامحا، بينما ظل الأفراد يصرون، واعتمادا على قراءات بلا سياق، على ضرورة المصادرة. كلما كانت الدولة ضعيفة انصاعت للعامة، ويتقوّون بضعفها. ما يبدو عيبا ولا أخلاقيا في رواية من الروايات، تبرره مجريات النص. أي أن على الذي يقف وراء جهاز المنع أن يدرك أن العالم الروائي هو العالم الموضوعي الحياتي المختزل أدبيا. وأنه عالم تخيلي لا يحيل إلا إلى نفسه. طبعا يبدو هذا الكلام بالنسبة للرقيب خرافيا وغير مقبول. مع أنه يخفق في مراقبة الأفلام الخليعة التي أصبح بإمكان أي شخص يملك كمبيوتر أو لوح آيباد أن يصل إليها. لهذا أقول لو كانت رقابة دولة رسمية لنوقش الأمر، لأن المؤسسة مخولة قانونا على الأقل لفعل ذلك، والمعركة في مثل هذه الحالة تستحق أن يخوضها الإنسان بكل ما يملك من حق وقوة وقانون ليُحرِّر كتابه. لكن أن تنتقل الرقابة إلى الأفراد، ليصبحوا هم من يحدد الجيد والسيئ؟ الديني واللاديني؟ الوطني واللاوطني؟ والأدبي واللاأدبي، فذاك أخطر ما يمكن أن يحدث لكتاب أو كاتب، إذ يمكن أن تتسلط، باسم ذلك، فئة من المنغلقين ومحدودي الثقافة، على الفعل الثقافي، فتتحكم مساراته. لهذا كنت أسخر دائما كلما سمعت أنه لا وجود للرقابة في البلد العربي الفلاني، وكل شيء مسموح بقوله؟ طبعا الأمر غير صحيح. فأخطر أشكال الرقابة هي رقابة الناس على بعضهم البعض. والتلصص. فيعطي كل شخص لنفسه الحق في فعل ما يشاء، فندخل في قانون شبيه بقانون الكل يراقب الكل كما في الفترة النازية، فتتجلى طبعا الأحقاد وتصفية الحسابات والرؤى الضيقة. ولا أحد يعرف بدقة كيف يمكن أن يحدد السيئ من الجيد، فترفع في حق الكاتب دعوى قضائية لمحاسبته على فعله أو حتى لتكفيره كما في بعض الحالات؟ حتى أصبحت المحاكم في البلاد العربية تعج بمحاكمة الكتاب الكبار، بدءا من طه حسين، مرورا بحيدر حيدر، وعبدالمعطي حجازي، وأخيرا وليس آخرا، كمال داوود الذي كفّره شخص قيل الكثير عن صحته العقلية ومستواه الديني والثقافي. مثل هذه العقليات القروسطية التي تلغي الحرية والعقل من تفكيرها، تصبح آلة عمياء تتصيد الأدباء والفنانين لإخراسهم أو قتلهم أو حرقهم، مع أن الأديان السماوية لم تقل أبدا بهذا. أتساءل أحيانا، ماذا لو تجرأ أديب عربي واحد وكتب ربع ما كتبه المركيز دو صاد؟ وثلث ما كتبه هنري ميللر؟ أو حتى أمبرتو إيكو في روايته اسم الوردة؟ ماذا لو امتلك أحدنا جرأة أئمتنا الكبار وهم يوصفون العلاقات الحميمة بين الرجل والمرأة، أو لغة الجاحظ أو السيوطي أو الإمام النفزاوي، الذين خرجوا من صلب الثقافة العربية الإسلامية ورفعوا لواءها عاليا بين الأمم؟ كل ما يمنع اليوم يسافر، عبر الإنترنت بحرية نحو ملايين القراء. فهل بقيت للرقابة سلطة؟ كم نحتاج في زمن الحروب المدمرة، والانهيارات العربية التراجيدية، إلى بعض العقل لتحرير مواهبنا التي توأد وتُمنع من التجلي.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store