Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

محمد البوخاري... معك رحلتِ الشّام التي أحببنا

أخبار الموت لا تأتي منعزلة، فهي تحمل معها ما نخاف من حدوثه دائماً، لتؤكد لنا في النهاية بأن العالم ليس بخير.

A A
أخبار الموت لا تأتي منعزلة، فهي تحمل معها ما نخاف من حدوثه دائماً، لتؤكد لنا في النهاية بأن العالم ليس بخير. يسألني ابني باسم وابنتي ريما وهما يشاهدان صور الموت اليومي الذي لحق بسوريا، البلاد التي ولدا فيها وأحباها كما يحب عاشق تربة مبهمة يشم فيها رائحة من أحب: الوضع ليس على ما يرام في الشام يا بابا، احك مع عمّو البوخاري. أطمئنهما بأن الشام كطائر الفينيق، ستقوم من رمادها حتى عندما يظنها الكلّ أنها انتهت. الشام ستكون بخير، وأنّ عمو البوخاري رجل عاشق للحياة بامتياز، ولن يسلّم فيها بسهولة. كنت أعلم جيداً أنّ محمد البوخاري الموريتاني، مثلنا جميعا، مثقل بجرح في الصميم لما يحدث في تلك الأرض الطيبة، وفي ناسها العزّل. كنت أريد أن أكتب عن شام عرفتها وعشتها بامتلاء، وعشقتها. عن مدينة منحت حبها بسخاء للعرب الذين خسروا ديارهم وأحبابهم، الذين دخلوها منكسرين، يبحثون عن عش يؤويهم، هاربين من تعب الظلم والقهر في بلدانهم، من العراق، إلى مصر، إلى فلسطين، إلى الأردن، وغيرها. بها تعرفت على الجواهري، سعدي يوسف، عبد الكريم كاصد، جليل حيدر، كوكب حمزة وغيرهم كثيرون، تعرفت أيضاً على أحمد دحبور، فيصل دراج، البرغوثي، عبد الرحمن منيف، غالب هلسا وغيرهم من الذين أكلتهم المنافي والموت، وفيها تعرفت أيضا على المثقف الموريتاني المفكر والمترجم محمد البوخاري، الذي أقسم أن لا يغادر الشام إلا ليختلط بتربتها. وكان له في النهاية ما أراده. فقد ظل وفياً لدمشق حتى عندما كانت تقسو عليه، في عز أزماتها. كانت تحليلاته قاسية ولكنها صائبة. ما يحدث اليوم في الشام كان يقرأه بين اللحظة واللحظة مثل الذي يقرأ خطوط اليد، وقليلاً ما يؤخذ بجدية وهو يحرق ما تبقى من العمر من وراء حزن صافٍ مثل جلسات نادي الصحفيين الذي كان بيته الأول . أتذكر مثل اللحظة جملته الحارقة: الحاكم العربي بني على الثبات والخلود الوهمي. هو الوطن، والوطن هو. لن يرْحَل الحكام العرب إلا في حالتين: أن يُرَحلوا بالقتل أو بانقلابات عسكرية لن تعمل في النهاية إلا على تطويل أعمار الأنظمة البائسة بامتياز، أو يسحبوا في أثرهم أراضيهم وأوطانهم ويغرقوها في حروب أهلية لا تنتهي؟ لا أفق آخر. كان في صلب الحياة والراهن المنفلت والضياع الذي عاش كفلسفة وخيار. الفلسفة كانت انشغاله الأكبر. كان يرى العرب هالكين لأنهم اختاروا معاداة الفكر الحر ومنع التأمل. أشعر اليوم بحزن كبير شبيه بحزن الذين يسقطون يوميا في بلاد في القلب تنام، منحتني كل شيء جميل. الثقافة والحب وابنين رائعين يدينان لها اليوم بالكثير، وأصدقاء هم اليوم منارة حب وحنين، لا أعرف عنهم الشيء الكثير في الزبداني، في الروضة، في حدائق الغوطة، في المخيم وفي الشام أيضاً، إذ تبدو كل الهواتف التي اتصلت بها لأسال عنهم مطفأة أو معطلة، ربما لأن الأقدار تريد تقسيط أخبار الموت لكي نتحملها بجلد أكبر، في زمن أصبح فيه الإنسان لا يساوي الشيء الكثير. لقد ظل البوخاري نورانياً حتى النهاية. لم يتخلَّ لا عن قوميته في عز انكسارها، ولا عن نظرته النقدية الحادة لما كان يراه سيئاً عربيا، ولا عن فكره الحداثي الذي كان خياره الأسمى والنهائي. لم تمنعه يومياته المثقلة بالحرية والتسكع الليلي، من الانضباط والعمل مع المركز الثقافي الإسباني كمستشار ثقافي قبل الرحيل، ولا مع السفارة الموريتانية كموظف ليس كالجميع لأنه ظل سيد نفسه. ذهب محمد البوخاري وترك وراءه شاماً لم يعد يعرفها. شام لم تتردد في قتله وهو العاشق لها حتى الموت.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store