Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
يوسف بخيت

تحت المطر.!

A A
الماء حياة، هكذا قرأنا وتعلمنا منذ نعومةِ أظافرِنا، وهي حقيقة نقيّة كنقاءِ ماءِ المطر، ولا عجب أن نشاهدَ الأطفالَ يحبّون اللعبَ تحتَ المطر، ويستهويهم منظرُ المياه المتجمِّعة بعْدَ هُطولِ الأمطار، فنَراهم يمارسون ألعابًا مائيةً لا قوانين لها، يقفزون مِن طَرَفِ الماءِ المتجمِّع إلى طَرَفِه، أو يشقّون بِرَكَ الماءِ الصّغيرة بأقدامِهم، تمتلئ أجسادُهم وملابسهم بالطِّين، وكأنهم في حفلةٍ مائيةٍ طينيةٍ تنكّرية، وأتذكّر كيف ابتكرْنا في طُفولتِنا ألعابًا مرتبطةً بالماء، كرمْي حَجرٍ بطريقةٍ أفقيّة، ليجتازَ بِركةَ الماءِ أو طرَفي الوادي، والفائز مَن يجتاز حجرُه سطحَ الماء بأكثر عَددٍ مِن نقاطِ التلامُس، ولأجلِ ذلك نختارُ الحجرَ بمواصفاتٍ نعرفها، بحيث يحقّق لأحدِنا الفوزَ على صاحِبِه.

يغادرُ الإنسانُ مرحلةَ الطفولة، لكنّ محبّتَه للمطرِ والماءِ عُمومًا تنتقلُ معه إلى سِنّ الشباب، وتتطورُ إلى أشكالٍ أكثر نشوة ومغامَرة، وقد تكُون قاتلةً في بعضِ الظروف، إذا اجتمعَ معها الطيشُ وعدم درء العواقب، وليس سِرًّا أنْ أقولَ: إنني جرّبْتُ مع أبناءِ جيلي الكثيرَ مِن المغامراتِ المائية، وتعرَّضْنا لمواقِف خطيرة، وإنْ كانَ الجانبُ الأكبر للبهجةِ وممارَسةِ رياضة السباحة، لقد كنّا نَعرِفُ، بخبرتِنا نحن أبناء القُرى، أعماقَ الغُدران في الأودية، ومدى صلاحيتِها للسِّباحة، بَل إنّ الأمرَ تعدّى ذلك إلى السباحةِ في الآبار، وحين أشاهدُ ألعابَ الغطس والسباحةِ في الألعابِ الأولمبية؛ أسترجعُ ذكرياتِنا وبطولاتِنا في الغديرِ أو البئرِ الفُلانيّة.!

المطر أنشودة عذبة، تمامًا كما صاغَ الشاعرُ الكبير: بَدر شاكر السيّاب - رحمهُ الله - قصيدتَه ذائعة الصِّيت في وصْفِ المطر، إنه رسائل الحُب مِن السّماءِ إلى الأرض، وقُبلات الحياةِ التي تعيدُ النضارةَ والنبضَ لما ذَوى وتلاشى مِن أغصانِ الشجرِ والعُشبِ وأرواحِ الناس، يَرى العُبّادُ في البَرْقِ والرعد والمطر بشائرَ ورحمة إلهيّة ساقَها اللهُ تعالَى للكائناتِ الحيّة، ويَستلهم الأدباءُ مِن أقواسِ السحابِ وقطراتِ المطرِ قصائدَ ومعاني الوصال، ويَغمرُ العُشّاقُ تحتَ المطرِ مشاعرُ لا حدودَ لها مِن الحُب، فقطرة المطرِ التي تروي بذرةً في باطنِ الأرض، تنسكبُ على قلوبِ الوالِهِين غيثًا يرُدّ إليها الطمأنينةَ، ويُهديها نعيمَ الراحة، وللروائي المصري العالمي: نجيب محفوظ - رحمهُ الله - رواية بعنوان: الحُب تحتَ المطَر.

يهطلُ المطرُ على بيتِ الفقير؛ فتتسرّبُ المياهُ عبْر سقفِ المنزل، ويهرعُ سُكانُه إلى جَلْبِ الأواني مِن المطبخ، لتستقبلَ الماءَ المتدفّق، وتعزفَ لحنًا فريدا، لا يُمْكن سماعُه إلا في بيوتِ الفقراء، وترتفعُ دعواتُ الأبِ والأم بالرضا والحمدِ والثناء لله عَزّ وجَلّ، الأطفال والبُسطاء وكِبار السنّ يَنْفُذُون إلى المعنى الأعمقِ لنزولِ المطر، ويُدركون بنقاءِ قلوبِهم جَمالَ لوحةِ الطبيعةِ وفِتنتها. تنسابُ حِبالُ مياهِ المطرِ على زُجاجِ نافذةِ مريضٍ في المستشفى؛ لتقولَ له: ستزورُك الصحّة، وعلى نافذةِ أُمٍّ غابَ عنها أبناؤُها؛ لتقولَ لها: سيعودُ إليكِ أحباؤُك، وعلى نافذةِ شابٍّ يحلمُ بمستقبَلٍ واعِد؛ لتقولَ له: تمسّك بحُلمِك، وعلى نافذةِ يائس؛ لتقولَ له: كُن قويًّا متفائِلا، فغدًا يهطلُ على قلْبِكَ غيثُ الفَرَجِ والسُّرور.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store
كاميرا المدينة