Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
يوسف بخيت

في عالَم الخَيال.!

A A
تحلِّقُ الأرجوحةُ بالأطفالِ عاليًا؛ فيُخيَّلُ إليهِم أنَّ مِن السهولةِ ملامَسة الغُيومِ بأيديهِم، والتقاط قطعةٍ بيضَاء مِنها، بَل إنَّ خيالَهم يأخذُهم إلَى أبعَد مِن ذلك، فيتصوَّرون أنَّهُم يطِيرون بالفِعل علَى مَتْنِ غَيمة، يَنظُرونَ إلَى الكائناتِ مِن تَحتِهم، ويَرونها صغيرةً جدًّا، يَعتقدُون أنَّ أجسادَهم الضئيلةَ أَكبَر حَجمًا مِن الأشجارِ العاليةِ والجِبالِ الشامِخة، وأنَّ الأرضَ بجَميعِ مخلوقاتِها وتضَاريسِها ليستْ، بالنسبة إليهم إلاَّ مجرَّد قطعةٍ مِن قِطع ألعابِهم، يا لهُ مِن خيالٍ طُفوليٍّ فاتنٍ، يرحلُ بعقولِ الصِّغارِ عن دُنياهم، ولو لأجزاء مِن الثانية، هي فترَة صُعودِ الأرجُوحةِ طيرانًا باتجاهِ السَّماء، ثُمَّ ما تلبثُ أنْ تهبِطَ إلَى الأرض، لينسجَ الطفلُ حكايةً جديدةً مِن وحْي خيالِه.

لا يَختلفُ حالُ الكِبارِ كثيرًا عن الصِّغار، إنَّهُم يعيشونَ بالخَيالِ والأمل، ونِعْمَ الزَّاد الخَيال والأمَل، إذا ارتبَطا بخطَّةِ عَمَلٍ محدَّدةِ الخُطواتِ واضحَة الأهداف، سواء كانت خطّة قريبَة أو بعيدَة المَدى، وإذا كُنَّا نغادرُ الطفولةَ بأجسادِنا، ولا تُغادِرُها أرواحُنا؛ فإنَّ للخيالِ نصيبُه كَذلك في أفكارِنا وأحلامِ يَقظتِنا ونَومِنا، وهَلْ كانت هذه الحقائقُ الجميلةُ فِي حياتِنا إلاَّ خيالاً في عُقولِنا ذاتَ يوم؟! ولو قَرأنا عَن حِكاياتِ الاكتشافَاتِ والاختراعَاتِ الكثيرة؛ لوجَدنا أنَّها بدأَتْ بخَيالٍ سَكَنَ عُقولَ العُلماءِ والعَباقرة، الذين أضَاؤوا طريقَ البَشريَّةِ بمنجزاتِهم، ورَفعوا مشاعلَ التنويرِ والحَضارةِ علَى قِمَمِ الخيَالِ والطُّموح، وأصبحَت الأجيالُ تَجني ثِمارَ هذا الجهدِ الإنسانيِّ العَظيم.

فِي عالَمِ الخيَالِ الكَثير مِن السَّعادةِ والراحَةِ والحُلول؛ سَعادة القلبِ إذا أخَذه الخيالُ إلَى مسَاحاتِ الطّمأنينة والتفاؤلِ بغدٍ أجمل، وراحَة العقلِ في رحلةٍ مع فكرةٍ جديدة، يَحتفلُ بمولِدها، ويَعتني بنموِّها وتَطويرِها، ثُم يقدّمُها إلى مَن يُشاركُه الاهتمامَ بِها والإضافةَ عليها، أمَّا الحُلول فإنَّها تنشأُ فِي الخَيالِ أولاً، وتهبطُ إلى الواقعِ لتَجريبِها وإثباتِ صلاحيَّتِها، وما سُوء التفكير، وضَعْف ابتكَارِ الأفكارِ لدَى البَعض، إلاَّ بسببِ ضَعْفِ خيالِهم وفسَادِه، وانسِداد آفاقِهم العقليَّة، والتفكِير بنفْسِ الطَّريقةِ دائمًا، وذلك يَعُودُ إلى أنماطِ التربيةِ الخاطِئةِ فِي الصِّغر، ثُم يأتي التعليمُ العَام والعالي، ودَورُه الهامُّ أنْ يأخذَ عُقولَ الناشئِين واليافعِين إلى عَوالمِ الخيَالِ والمعرفة، ويَضعُهم علَى الطّريقِ القَويمِ لتعلُّمِ مهاراتِ التفكيرِ والتدريبِ علَيها.

ولَنا فِي الخَيالِ حيَاةٌ، أليسَ هذا ما قَرأناهُ منذ زمن؟! وهي في الغَالبِ حياةٌ ورديَّةٌ مِثاليَّةٌ، لا يعيشُ معنَا بِها إلاَّ الوجُوه التي نُحبُّها، حَياة نختارُها بأنفُسِنا، نضعُ حُدودَها برغبتِنا، ونَرسمُ مَلامِحَها بالألوانِ المفضَّلةِ لدينا، كلَّما أزعجَتْنا الحياةُ الحقيقيَّة؛ ارتحَلنا إلَى حياتِنا الخَياليَّة، وكأنَّ العقلَ والقلبَ فِي نُزهةٍ سَعيدةٍ، حتَّى مع الكتَاباتِ النثريَّةِ والشِّعريَّة هُناك تلازمٌ وثيقٌ بيْنَ الإبداعِ والخيَالِ في استِلهَامِ الفكرةِ وتدوينِها، وليسَ بالضَّرورةِ أن نَعرِفَ الأشخاصَ المقصُودِين بهذه المشاعرِ المنثورةِ عِطرًا علَى أوراقِ الرسائلِ وصفَحَاتِ الكُتب، إذ يحدُث -كثيرًا- أن نكتبَ رسائلَ الحُبِّ للمجهُولِين، ونضعَها في جُيوبِ وحقائبِ عابرِي العَقلِ والقلبِ، فلا حُدودَ للكَلماتِ والمعَاني حين تسافرُ إلى اللا نهايَة، وتُعانِقُ الخَيال.!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store
كاميرا المدينة