Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
يوسف بخيت

مَواسِم الشَّتات.!

A A
لا يَكادُ الإنسانُ النّاجحُ ينتهي مِن عمَلٍ، إلاَّ وينشغلُ بآخَر، وقد ينهمكُ في أداءِ عَملَين أو أكثَر بوقتٍ واحدٍ، ويتمنَّى بعضُ النابهِين أنْ تمتدَّ ساعاتُ اليوم والليلة لتتجاوزَ أربعًا وعشرين ساعَةً؛ ليتسنَّى لهم إنجازُ واجباتِهم الوظيفيَّة والأسريَّة والشخصيَّة، بينما لا يجدُ الكُسالَى ما يفعلونه، أو هكذَا يزعمُون، فيَرْكَنُون إلى الخُمولِ والتسويفِ، وهكذَا يختلفُ إحساسُ الناسِ بالوقتِ، ويتفاوتُ إدراكُهم لأهمِّيتِه وقِيمَتِه، ومهْما بَذَلَ المرءُ مِن جهْدٍ، وواصَلَ ليلَهُ بنهارِه لإنجازِ أعمالِه وتحقيقِ طُموحاته، فإنَّ الكثيرَ مِنها سيبقَى علَى قائمةِ الانتظَارِ، أو تطالُه يدُ النسيَان، وهذه طَبيعةُ الحيَاةِ كَما عَرَفناهَا وعايشنَاهَا، تنقضِي سنواتُ العُمر، وما انقضَتْ أعمالُنا، ولا تَحقَّقَ كثيرٌ مِن آمالِنا، وللهِ دَرُّ القائلِ:

تموتُ مَعَ المرْءِ حاجاتُهُ

وتَبْقَى لهُ حاجةٌ ما بَقِي

ما أَجملَ أنْ تمتلئَ ساعاتُنا بالإنجازاتِ الصَّغيرةِ والكَبيرةِ، فالعَملُ والنَّشاطُ دواءٌ للجسَدِ، وحِمايةٌ لهُ مِن تعطُّل أعضائِه، ووقايةٌ للعَقلِ مِن الانشغالِ بالأفكَارِ الخاويَة، وصِيانةٌ للوقتِ، الذي هُو عُمْر الشخص، مِن الضيَاعِ فيما لا يَمنحهُ فائدةً وسُرُورًا، وما شَكوى كَثيرِين مِن المَللِ والكآبة إلاَّ لوقُوعِهم في حُفرةِ الفَراغِ العَميقةِ المُظلِمةِ، ولو أدركُوا أنَّ العملَ يُشعِرُهم بالرِّضَا عن حالِهم؛ لبادَروا بالنهُوضِ، وانهمَكوا بِما يَدفعُ الأفكارَ السلبيَّة عنهم، كترتيبِ مكتبَةٍ، وإنجَازِ مهامَّ مؤجَّلة، أو قراءة كِتابٍ بهِ المتعَةُ والفَائدةُ، أو صِلَة رَحِم، أو المشي والتأمُّل في الطبيعَة، وغيْرها مِن الممارَساتِ النافعَةِ للعَقلِ والجسَدِ.

تأتي علَى الإنسانِ أوقاتٌ، يَشعُرُ فيها بتشتُّتِ أفكارِه، وافتقادِ تَركيزِه، واضْمِحلالِ رغبتِه فِي القيامِ بشيء، إنَّها مواسِمُ الشَّتاتِ الَّتي تطولُ أو تَقْصُرُ باختلافِ مشاغلِ الإنسَانِ ومشاعرِه، ربَّما امتدَّ الشتاتُ لساعَاتٍ وأيَّامٍ، والأسوأ حينَ يتجاوزُ إلَى أسابيعَ وشُهورٍ وسنَواتٍ، تَصيرُ معَها الحيَاةُ مُعاناةً حقيقيَّةً، لا يَعلَمُ الشخصُ كيفَ يعودُ إلى حيويَّتِه، ويستعيدُ رغبتَهُ في العَملِ، تتراكمُ علينا الواجبَاتُ؛ فيزدادُ الشتَاتُ، نَسْمَعُ الأصواتَ مِن حَولِنا كالهَمْهَماتِ التي لا تُفهَم، ونَرى الصُّورَ باهتةَ الألوانِ، وبالكادِ نَقوَى على فَهْمِ المواقفِ، واستيعَابِ الأحداثِ، وربْطِها ببعضِها، ويُصبحُ حالُنا كحالِ مَن يقودُ سيَّارتَه وَسط الضَّبابِ الكَثيفِ، الذي يَحجبُ الرؤيةَ، ويُسبِّبُ الارتباكَ.

يزُولُ الشتاتُ بزوالِ أسبابِه، فإذا عَلِمَ الإنسانُ أنَّ ساعَاتِه محدودةٌ معدودَةٌ، وَجَبَ عليهِ التأسيسُ والبِناءُ علَى هذهِ الحَقيقةِ، بتنظيمِ أفكارِه وأعمالِه، ابتداءً بالأهمِّ ثُمَّ المهِمِّ، مع السَّعي الدائبِ إلى التخفُّف مِن فُضولِ الحَديثِ والعلاقَاتِ، إلاَّ مَا أضافَ فِكرةً، أو سَما بِرُوحٍ، وأنارَ طَريقًا، ولا شَكَّ أنَّ التشبُّثَ بحِبالِ اللهِ تعالَى منجاةٌ مِن الشتَاتِ، وقدْ قرأتُ في زمنٍ مضَى هذَا الدَّعاء: «اللهُمَّ لُمَّ شَعْثَ نَفْسِي»، ولا بُدَّ مِن الإصغاءِ إلى نِداءِ العَقلِ والرُّوحِ والجَسدِ فِي طَلبِ الراحَةِ، ومنْحِهِا محطَّاتِ استراحَةٍ مِن حينٍ لآخَر، لاستعادةِ النَّشاطِ الذهنيِّ والجسَديِّ، ثُمَّ العَودة إلى ميَادينِ العَملِ برغبَةٍ وإبداعٍ.

يا رفيق الحَرْف، في كلِّ مَرّةٍ تمتلئُ بالشتاتِ؛ اذهب إلى مكانٍ تعوّدْتَ أنْ يلهمكَ الأفكارَ، اكتبْ سُطورًا لمَن يَهتمُّ بِرسَائلِك، اصمُت، اصمُت طَويلاً.!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store
كاميرا المدينة