Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
يوسف بخيت

المقامات اليوسفية (1): رَشَفات.!

A A
قالَ يوسف وهو يتأمّلُ أحوالَ الدُّنيا، وينظرُ إلى حَركةِ المخلوقات: وما الحيَاةُ إلا رَشَفاتٌ بَعْدَ رشَفات، تتنوعُ فِيها الأكوابُ والمشرُوبات، فهذا يحتسِي الشَّهْدَ وعلى وجهِهِ ترتسمُ البَسَمات، وذاكَ يتجرّعُ المرارات، ولا تكفُّ عيناهُ عن سَكْبِ العَبَرات، ومِن مَحَطّةٍ إلى محطةٍ تنتقلُ بِنا الخُطُوات، تَصْعَدُ بنا إلى القِممِ العاليات، أو ترمينا في الأخاديدِ المظلِمات، هنيئًا لمن استوعبَ المعاني، وأدركَ أسرارَها الخفيّات؛ فسَلَكَ إلى السعادةِ طريقًا مَحفوفًا بالأُمنيَات، وأضاءَ عقلَهُ بالأفكارِ النيِّرات، وامتلأَ قلبُهُ بالحُبِّ لجميعِ الكائنات، وهذا ما يفعلهُ مَن عَرَفَ أنّ العُمْرَ سنواتٌ عابرات، لا تدومُ فيها فرحةٌ، ولا تَستمِرُّ حَسَرات، ونحنُ في طريقِ الرحيلِ ماضُون، ولا يَبقَى إلا فاطرُ الأرضِ والسَّماوات.

ذاتَ مساءٍ سألني أَخي وصَديقي سُلطان قائلاً: يا أبا خالد، أرأيتَ مَن انشغلَ بسُوءِ الظُّنون، وصارَ يمشي بينَ الناسِ كالمجنون، فلا يقتنعُ برأيٍ، ولا لسِرٍّ يصُون، قُل لِي بربِّكَ، كيفَ حياتُه تكُون؟! اعتدلتُ في جَلْسَتي، ونظرتُ إلى أَبي حاتمٍ نظرةَ مَمْنون، وقلتُ له: يا أَخي وصاحبِي، أنتَ أَكْبَرُ مِنِّي سِنّا، وأعلى منزلةً وفَهْما، وما أنا في حضرتِكَ إلا تلميذٌ بالكادِ يكتبُ حَرْفَ النون، وإجابةً عن سؤالِكَ أقول، ومِن اللهِ تعالَى أستمِدُّ العَون: ذلكَ شخصٌ في عقلِهِ خَلَلٌ ونظْرتُهُ تخُون، ويا بؤسًا لحياةٍ يحياها وهو مفْتون، ولعلَّ رحمةً تتداركُه، وتُنقِذُهُ مِمّا هو فيه مِن هُون؛ فيُصحِّحُ مسارَه قَبْلَ أنْ تخطَفُهُ يَدُ المنون.

عادَ أبو حاتمٍ يسْألُني مِن جَديد، مع إنهُ، واللهِ، ذو عَقلٍ رَشيدٍ ورأيٍ سَدِيد، ويا عَجَبي، كيفَ يَطلُبُني الحكمةَ وأنا عنها بَعيد، نظرَ إليَّ متسائلا: ما تقولُ في شخصٍ تصنعُ لهُ المعروفَ وهو جاحدٌ عنيد، لا يردعُهُ رادعٌ، ولا نُصْحٌ معهُ يُفِيد؟! قلتُ: يا أَخي وصَاحِبِي، ذاكَ قد سارَ في دَرْبِ النُّكران، واستحوذَ عليهِ شيطانٌ مَرِيد، ألمْ يقرأ: «هلْ جزاءُ الإحسَانِ إلا الإحسان»؟!، يَظُنُّ نفْسَهُ حُرّاً وهُو عَبْدٌ مِن العَبيد، عبدٌ لأفكارٍ سَوداءَ وعَقلٍ بليد، وإلا كيفَ يُنْكِرُ شخصًا يَبْذُلُ لهُ الخيرَ ويَسعَى بالمزيد؟!، ليتهُ يتفكّرُ في حالِه، ويقرأ: «إنّ في ذلكَ لذِكرى لمن كانَ لهُ قلبٌ أو أَلقى السَّمْعَ وهوَ شهيد».

طالَ الحديثُ مع أبي حاتم، والحديثُ إذا طابَ طال، حتّى لو كانَ بهِ ما يُزْعِجُ التفكيرَ، ويُكَدِّرُ البال، إلا أنّهُ على قلوبِنا كالماءِ الزُّلال، لأنهُ مِمَّنْ نُحِبُّهُم وينشرحُ لمرآهُم الحال، وما أَجْمَلَ الجُلوسَ معَهُم تحتَ أشجَارِ الأفكَار، نُغذِّي العقلَ بالمعرفةِ والقلبَ بالمحبّة، ونتفيّأُ بارِدَ الظِّلال، ولا خيرَ في مَن لاذَ بالصَّمْتِ، واختارَ الانعزال، فلا نَسْمَعُ مِنهُ قِيلاً ولا قال، وأَنْعِمْ وأَكْرِمْ بِمَنْ جَلَسَ في مجالسِ الرِّجال، فعَرَفَ الحقَّ، وبِهِ نَطَق، وما لغيرِهِ مال، علَى الدَّوامِ كريمٌ مِفْضال، يُسْعِدُكَ بتَهْذيبِ أخلاقِه، ويَأْسِرُكَ بسُمُوِّهِ في الأقوالِ والأفعال.

يا رفاقَ الحَرْفِ وإشعاعَ الجَمال، هذا ما سَمَحَ بهِ المقامُ، وأَسعَفَني بهِ المقَال، وأَختِمُ بالصّلاةِ والسَّلامِ علَى سيِّدِنا ونَبيِّنا مُحمّد، وعلَى جميعِ الصَّحْبِ والآل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store
كاميرا المدينة