Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
يوسف بخيت

السِّحر الحَلال.!

A A
الإنسانُ ذو العَقلِ الراقي، والقلبِ النقيِّ، تأسرُهُ الأخلاقُ الحسَنة، وتأخذُ بمجامعِ فِكرِهِ الكلمةُ الطيَّبةُ، والمعامَلةُ المتحضِّرَةُ، جميعُ هذهِ الأمورِ لا يمكنُ أن تمُرَّ عليهِ مرورَ الكرامِ كما يُقال، بَل يتوقفُ عندَها وعندَ أصحابِها زمنًا طويلاً، يتأمَّلُ أحوالَهم، ويشعرُ بالامتنانِ حِيالَهُم، ويَرى، بنفْسِهِ السخيَّةِ المتواضِعَةِ، أنَّهُ إنسانٌ عادِيٌّ، لا يستحقُّ كلَّ هذهِ الحَفَاوةِ، ويكفيهِ أقلُّ القليلِ منها، وبالنظرِ إلى هذا الإنسانِ الجميلِ في كافَّةِ أحوالِه؛ نلاحظُ أنَّهُ جَمَعَ مِن مكارمِ الأخلاقِ أَثْمنَها، وحازَ مِن حُلْوِ الطِّباعِ أسْماهَا؛ فصارَ قِبلةً للحُبِّ والاحترامِ، يشتاقُ إليهِ في غيابِهِ مَن يعرفُه، ويفرحُ برؤيتِهِ مَن يلقاهُ ويجلسُ معه، يمضي الوقتُ بصُحْبَتِهِ سريعًا، ويتشعَّبُ الحديثُ في حُضورِهِ ويَطيب.

لا يَكادُ يُوجَدُ إنسانٌ بِلا أصدقَاء، فعلَى الأقلِّ لديهِ صَديقٌ واحِدٌ، ومِن بيْنِ جميعِ أصدقائِنا هناكَ شخصٌ لا يُشْبِهُ الآخَرِين، يُشِعُّ المكانُ نورًا حينَ يُشْرِقُ هذا الصَّديقُ بوجهِهِ علينا، يمتلئُ القلبُ سُرورًا بالحديثِ معه، تهطلُ غيومُ الذكرياتِ غزيرةً مِن سمائِه، ونضحكُ مِن أعماقِ قُلوبِنا على طرائِفِهِ وخِفَّةِ دمِه، حتَّى رسائله في هواتِفِنا نقرؤُها حرفًا حرفًا، بينما لا تَحظَى رسائلُ غيرِهِ بذاتِ النَّشوةِ والاهتمَامِ، كلُّ مَن يقرأُ هذهِ السطورَ تقريبًا؛ ستأخذهُ ذاكرتُه إلى وجهِ ذلكَ الصديقِ المختلِف، ويسترجعُ معهُ مواقفَ لا تنتهي، ترسمُ على الوجهِ ابتسامةً عريضةً صادقةً، والأجمَلُ إذا صارَ هذا الكلامُ يدفعكُم ويدفعُني إلى كتابةِ وإرسالِ رسالةِ مَحبَّةٍ عاجلةٍ، تليقُ بمكانةِ الصديقِ الأثيرِ لدَى كُلِّ واحدٍ مِنَّا.

السِّحرُ الحَلالُ باقةُ وردٍ فَوّاحةٌ مِن الأقوالِ والأفعالِ، يمارسُها أقوامٌ ارتقتْ إلى العلياءِ أنفسُهُم الزكيَّةُ، وارتفعتْ عن الرذائلِ خِصالُهُم الكريمةُ، تيقّنَ هؤلاءِ البَشَرُ الأنقياءُ أنَّ رحلةَ العُمْرِ لها محطّةُ نهايةٍ، حتّى لو طالَ زمنُ الرحلةِ، وامتدّتْ مسافتُها، وعلَى أساسِ هذهِ الحقيقةِ ارتفعَ بنيانُهم في قلوبِ الناسِ شامخًا، يُطاوِلُ سحابَ المجدِ والسُّؤْدَدِ عُلُوًّا، الرقابةُ الذاتيَّةُ عندَهُم صارمةٌ، لا يسيئونَ للغيرِ، ولا يتقبَّلونَ الإساءةَ المتعمَّدَةَ، يردُّونَ عليها بالمثْلِ إنْ شاؤوا، أو يتجاوزونَ عنها، إنْ كانَ التجاوزُ، في تقديرِهم، يمنحُ المخطئَ فُرصةً للاعتذارِ الصّادقِ، وتصويبِ الخطأ، وبهذا الفعلِ يصنعونَ القُدوةَ لغيرِهم، ويرسمونَ لمن أخطأ -وكلُّنا خطَّاؤون- طريقًا للعودةِ والتراجعِ عن الزَّللِ.

يا أصدقاءَ الإنسانيَّة، هناكَ الورودُ التي نشتريها، أو يهديهَا إلينا مُحِبٌّ، ننظرُ إليها بمودَّةٍ وامتنانٍ، ويصلُ إلى أنوفِنا شذاهَا، وثَمّةَ ورودٌ نحْنُ مَن نبذرُ بذورَها، لكنَّنَا لا نشُمُّ عبيرَهَا، بل تَنبُتُ بعْدَ غيابِنا المؤقَّتِ أو الدائمِ، وتملأُ رائحةُ عِطْرِها المكانَ، رائحةٌ تبقَى وتدومُ طويلاً، إنَّها بذورُ سيرتِنا العَطِرةِ مع القريبِ والبعيدِ، التي نزرعُها في بُستانِ الحيَاةِ، نَسقيهَا ونرعاهَا بِلُطْفِ المعْشرِ ودَماثَةِ الخُلق؛ فتُنْبِتُ جنائنَ ورودٍ وزُهورٍ يَسُرُّ مَرآهَا الناظرِين، والسعيدُ الحكيمُ حقًّا مَن قضَى سنينَ عُمْرِهِ مهتمًّا بهذا البُستانِ، وصَدَقَ الشاعرُ الكبير: أحمد شوقي -رحمهُ الله- حينَ قال:

دَقّاتُ قَلْبِ المرْءِ قائِلةٌ لهُ

إنَّ الحيَاةَ دقائِقٌ وثوانِي

فارْفَعْ لنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَها

فالذِّكْرُ للإنسَانِ عُمْرٌ ثانِي.!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store