Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أحمد عبدالرحمن العرفج

أحزان منثورة على أختي نورة

الحبر الأصفر

A A
يَعرفُ النَّاسُ الشَّخصيَّاتِ العَامَّةِ، ويَكتبُونَ عَنهَا؛ لأنَّهَا مَشهورةٌ، ولَكنْ يُوجدُ شَخصيَّاتٌ اجتمَاعيَّةٌ، عَامِلَةٌ ونَشيطَةٌ فِي مُحيطهَا، لَا تَصلُ إلَى الإعلَامِ، وأنَا مُتأكِّدٌ أَنَّ كُلَّ مُحيطٍ اجتمَاعيٍّ، يُوجدُ فِيهِ شَخصيَّةٌ مُميَّزةٌ، عُرفتْ بنَشاطٍ مَشهودٍ، يَعرفُهُ كُلُّ مَن يَنتَمِي لهَذِهِ المَجموعَةِ.. ومِن هَذِهِ الشَّخصيَّاتِ التِي أَقصدُهَا، أُختِي الغَاليةُ «نُورة العَرفج»، التِي رَحلتْ قَبلَ أيَّامٍ -تَغمَّدهَا اللهُ برَحمتِهِ، هي وسَائرُ أَموَاتِنَا-..!

نَشَأَتْ أُختي «نورة» في طفُولةٍ صَعبَةٍ، وعِندمَا وَصلَ عُمرُهَا إلَى السَّابِعَةِ، كَانَ الجَدَلُ مُحتَدمًا ببريدَة حَولَ تَعليمِ البَنَاتِ، وكَانَ أَبي -رَحمه اللهُ- أَحَدَ المُعارضِينَ لتَعليمِ المَرأَةِ، الذينَ قَابلُوا المَلكَ فِيصل -رَحمه اللهُ- مِن أَجلِ تَعطيلِ هَذَا القَرَارِ..!

إذَا كَانَ قَد تَعلَّقَ بَعضُ الرِّجَالِ بالمَسَاجدِ، فإنَّ أُختِي «نورة» -فِي طفُولتِهَا- كَانتْ مُتعلِّقةً بالمَدَارسِ، ولَكنَّها لَم تَدخُلُ مِن بَاب البِرِّ لأَبِي، ونزُولاً عِندَ رَغبَتِهِ.. ولَكنَّ عَدمَ دخُولِهَا للمَدرسَةِ؛ لَم يَمنعهَا مِن تَثقيفِ نَفسهَا بنَفسهَا، وتَعلُّمِ القِرَاءَةِ والكِتَابَةِ، حَتَّى أَصبَحتْ لَا تَتحدَّثُ إلاَّ وهي تَستَشهدُ بآيةٍ كَريمةٍ، أَو حَديثٍ شَريفٍ، أَو بَيتٍ شِعريٍّ، أَو مَقولةٍ لـ»العقَّادِ»، أَو «المَنفلوطيِّ»، ولَا أُبَالغُ إذَا قُلتُ: إنَّهَا بوَعيهَا؛ كَانت تَفُوقُ مَن تَخرَّجنَ؛ مِن أَرقَى الجَامِعَاتِ الأَمريكيَّةِ والأُوروبيَّةِ..!

لقد كَانتْ أُختي «نورة - أم خالد» -رَحمها اللهُ-، مِثَالاً لَنَا فِي الإيجَابيَّةِ والتَّحفيزِ، والانطِلَاقِ فِي الحيَاةِ، وقِرَاءةِ تَصرُّفَاتِ الآَخَرِينَ، قِراءةً مَشفوعةً بحُسنِ الظَّنِّ والقَصْدِ، بَل لقَدْ رَأيتُ فِيهَا شَيئًا لَم أَرْهُ في أَيِّ امرَأةٍ أُخرَى، ألا وهُو انعدَامُ الشَّكوَى، فهِي لَا تَشتَكِي أَبدًا، وتَعتبرُ الشَّكوى اعتدَاءً عَلى قَدَرِ اللهِ، مَع أَنَّ الإنسَانَ -وبالذَّات المَرأة- قَد جُبلتْ عَلى حُبِّ الشَّكوَى والاحتمَاءِ بِهَا..!

لقَد كَانتْ «نورة» بَيننَا هِي هَمزة الوَصلِ، ولَم تَكُنْ الخيمَة، بَل هِي رَأسُ الخيمَةِ، حَيثُ كَانتْ تَنشرُ السَّعَادَةَ فِي كُلِّ مَجلسٍ تَدخلُهُ، رَغمَ أَنَّ شريطَ حيَاتِهَا كَانَ كَثيرَ المَتَاعِبِ والأترَاحِ، قَليلَ المَسرَّاتِ والأفرَاحِ..!

أكثَرُ مِن ذَلكَ، لقَد كَانتْ أُختي «نورة» مِن أَوَائِلِ النِّسَاءِ، اللائِي حَرصنَ عَلى الأَكلِ الصِّحيِّ، قَبلَ أَنْ تَستَوطنَ الطَّبيبَةُ اللِّبنَانيَّةُ المَعروفةُ «مريم نور» القَصيمَ، وكُنَّا نَقولُ إنَّ أُختي «نورة نور»، أَفضَلُ بكَثيرٍ مِن «مريم نور»؛ نَظرًا لحِرصِهَا عَلى الأَكلِ المُفيدِ، الخَالِي مِن السُّكريَّاتِ والنَّشويَّاتِ والزيوتِ..!

لقَد كَانت تُوصينَا بالتَّسَامُحِ، وتَسهيلِ الأمُورِ، وهي قَبلَ أيَّامٍ مِن رَحيلِهَا، قَالَتْ لَنَا بالحَرفِ الوَاحِدِ: أَرجُوكُم إذَا مُتُّ، اجعَلُوا العَزَاءَ فِي المَقبرَةِ فَقطْ، لَا أُريدُ أَنْ تَفتَحُوا المَنزلَ لمُدَّةِ ثَلاثة أيَّامٍ، حَتَّى لَا تُتعِبُوا النَّاسَ، وتُتعِبُوا أَنفُسَكُم فِي استقبَالِ المُعزِّينَ..!

حَسنًا.. مَاذَا بَقِي؟!

بَقِي القَولُ: إنَّ الإنسَانَ ليَتفَاءلُ بالاسمِ، وأَنَا كُنتُ مِن المُتفَائِلينَ باسمِ «نورة»، لذَلكَ عِندَمَا كَرهتُ الدِّرَاسَةَ -وأَنَا فِي المَرحلَةِ الابتدَائيَّةِ- هَربتُ مِن أُسرَتِي، التِي تَسكُنُ فِي المَدينَةِ المُنيرةِ، وذَهبتُ إَلى مَنزلِ أُختِي «نورة» فِي بريدَة؛ كلَاجئٍ مِن لَاجئِي الجَهلِ، عِندهَا استقبَلتنِي واحتَوتنِي وأَقنَعتنِي بأَهميَّةِ الدِّرَاسَةِ والتَّعليمِ، وبَعدَ أسبُوعٍ عُدتُ إلَى المَدرسَة، وبَدأتُ صَفحَةً جَديدةً، وأَحببتُ العِلمَ، حَتَّى حَصَلتُ عَلى آخَرِ شَهَادَةٍ مُمكِنَةٍ فِيهِ..!

لقَد كَانَ الفَنَّانُ «محمد عبده»، مُتفائلاً باسم «نورة»، فجَعلَه اسمًا لكُبرَى بَنَاتِهِ، وكَان المَلكُ «عبدالعزيز» -رَحمه اللهُ-، يَتفَاءَلُ بالاسمِ ويَقولُ دَائِمًا: أَنَا أَخُو «نورة».. وهَا هِي أُختِي «نورة»، تَنْفَحنِي، وتَمْنَحنِي شَيئًا مِن جَمَال اسمهَا، وتَأثيره الإيجَابيِّ، وتُعيدُنِي إلَى التَّعليمِ، ولَا عَجَبَ فِي ذَلكَ، فالعِلمُ نُورٌ، والمَعرِفَةٌ «نورة»..!!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store