Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

تفكيك العولمة

السؤال بالنسبة لنا الآن في العالم العربي، وقد كُنَّا نتّهم العولمة دوماً بأنها مؤامرة دولية تستهدفنا، هل تفكيك العولمة يَصْب في صالحنا؟.. وهل رد الاعتبار للدولة الوطنية يخدم رؤيتنا لذواتنا؟.. وهل يمكننا الاستفادة من حالة النكوص المتعولم قبل أن نُرسي قواعد راسخة للدولة الوطنية فوق أرضنا؟.. وهل يمكن إرساء هذه القواعد دون استحضار قيم المواطنة وترسيخ قواعد الشراكة الوطنية؟

A A
العولمة تترنَّح، فيما تواصل الدولة الوطنية الزحف لاستعادة مكانتها، مصطحبة معها إرثاً هائلاً، من أدوات للسياسة بدا في لحظةٍ ما أنها تتوارى أو تتراجع في مواجهة اكتساح تقنيات الاتصال الفائقة السرعة لكل ما أمامها.

هيمنة تيارات شعبوية على اتجاهات التصويت في الانتخابات الوطنية بعدد من الديموقراطيات الراسخة، بدا في جانب منه انعكاساً لحالة خوف مرضي، من عالم تجتاحه تيارات العولمة، فتقتلع أبوابه وتُحطِّم نوافذه، وتنتهك أخص خصوصياته.

الأزمة التي عصفت بموقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي، وقادت أسهمه إلى خسارة أكثر من سبعة وثلاثين مليار دولار من قيمته السوقية خلال أقل من أسبوع واحد، هي في أحد تجلياتها انعكاس لحالة صراع مكتوم بين الدولة بحدودها السياسية والسيادية المحددة، وبين قدرات تواصل تقني لا تعترف بالحدود، ولا تتوقف عندها.

أما الأزمة التي تواجهها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يخوض صراعاً شرساً في الداخل، بمواجهة اتهامات بأنه قد استفاد من تدخل روسي لصالحه في الانتخابات الرئاسية، عبر تقنيات الاتصال ذاتها، فقد اكتسبت الآن بُعداً جديداً، بعد اعتراف مارك زوكر بيرج مؤسس موقع فيسبوك، ببيع بيانات خمسين مليون مستخدم للموقع، إلى شركة كامبريدج أناليتيكا، جرى استخدامها ضمن حملة المرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترامب، وقادت باعتراف رئيس الشركة إلى المساهمة في فوز ترامب بالرئاسة.

اعتراف مارك زوكربيرج، يُؤكِّد فرضية خصوم ترامب في حدوث تدخُّل إلكتروني لصالحه عبر الإنترنت، في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها ترامب، لكنه يُسهم في إثارة شكوك جدية حول ما إذا كانت روسيا وراء هذا التدخل الإلكتروني للإطاحة بفرص هيلاري كلينتون منافسة ترامب، في الفوز بالرئاسة.

كانت العولمة هي المستفيد الأكبر من ثورة تقنيات الاتصال، وكانت القوى الكبرى هي المستفيد الوحيد تقريباً من العولمة، ولهذا راحت تفرضها قسراً على سائر دول العالم، بقوة اتفاقيات ومنظمات وتجمعات، مثل اتفاق باريس بشأن المناخ، واتفاق حظر الانتشار النووي، ومنظمة التجارة العالمية، وتجمُّعات مثل نافتا لدول أمريكا الشمالية، وإيبك لدول آسيا والباسيفيكي، لكن وعود العولمة للكبار، بمزيد من احتكار الرخاء لشعوبهم، والهيمنة على المزيد من حصص التجارة الدولية راحت تتبدَّد، مع خروج الوظائف من أمريكا عبر الباسفيكي إلى الصين وفيتنام وإندونيسيا، وكذلك من خلال نافتا إلى المكسيك جنوب الولايات المتحدة.. وباختصار باتت العولمة التي وضعت الولايات المتحدة العالم فوق قضبانها، شراً على الولايات المتحدة ذاتها، بعدما تراجعت بوضوح عوائد واشنطن منها، ما مهَّد الطريق إلى البيت الأبيض أمام مرشح رئاسي تدفعه تيارات شعبوية، نالت منها سياسات العولمة.

قرارات إدارة ترامب بالانسحاب من إيبك (اتفاق التجارة الحرة لآسيا والباسيفيكي)، ثم تجميد عضوية بلاده في نافتا (اتفاق التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية) ثم التراجع عن التزامات واشنطن بموجب اتفاقية المناخ، ثم فرض عقوبات تجارية على أضخم شريك تجاري للولايات المتحدة على الإطلاق (الصين)، كلها عناوين فرعية لعنوان رئيسي واحد من كلمتين هما (تفكيك العولمة).

السؤال بالنسبة لنا الآن في العالم العربي، وقد كُنَّا نتّهم العولمة دوماً بأنها مؤامرة دولية تستهدفنا، هل تفكيك العولمة يَصْب في صالحنا؟.. وهل رد الاعتبار للدولة الوطنية يخدم رؤيتنا لذواتنا؟.. وهل يمكننا الاستفادة من حالة النكوص المتعولم قبل أن نُرسي قواعد راسخة للدولة الوطنية فوق أرضنا؟.. وهل يمكن إرساء هذه القواعد دون استحضار قيم المواطنة وترسيخ قواعد الشراكة الوطنية؟.

الأوطان هي وعاء السياسة، والإنسان هو مادتها وغايتها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store