Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

صالون الطيب.. وتفاحة مصطفى إدريس

اليوم، وبينما تستعيد السعودية كلها من أقصاها إلى أقصاها، وجهها الحضاري، واثقة من ذاتها، متصالحة مع مكوّناتها، متطلعة بأمل إلى غد لها فيه المكان المستحق والمكانة اللائقة، فإن رموزاً ثقافية وفكرية وحضارية، اضطلعت، ربما عن غير سابق تخطيط، بمهمة صيانة الهوية ضد عبث الغلو، وَلَهْو التشدد، وعصف الغلاة، تستحق أن نذكرها بكل الخير.

A A
ربما لم يلتقِ مصطفى إدريس كثيراً بمحمد سعيد طيب، لكنهما معاً أمضيا الشطر الأكبر من حياتهما في جدة على ساحل البحر الأحمر. وبدون سابق ترتيب أو اتفاق بينهما، راح كل منهما يعطي معنى خاصاً لحياته، وهو يدافع عما يراه حقه في الذائقة الحضارية لمدينة بعمق وتنوع وجمال جدة.

كانت جدة تحاول أن تلوذ بهويتها الحضارية، مطلع الثمانينيات الميلادية، بعد توابع زلزال حادثة عصابة جهيمان العتيبي بالحرم المكي أواخر السبعينيات الميلادية، لم تكن المهمة سهلة، فيما كانت قوى التشدد وتيارات الغلو، تجتاح المنطقة كلها من الجزائر وحتى أفغانستان، لكن رموزاً للفكر والثقافة والتنوير، احتفظت بإرادة التصدي لتيارات الغلو، واستطاعت بفعل حبها للحياة، وإيثارها لحرية الفكر، أن تسهم ولو بالنذر اليسير في صيانة هوية مدينة، ومجتمع.

كلاهما صان رأسه، وروحه، بالتمرُّد على هذا الغلو العابر للحدود. وحين استدار التاريخ مُصحِّحاً بوصلته، بإصلاحات اجتماعية وثقافية وسياسية عميقة، دشّنها سمو ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان، بدا أن من صانوا رؤوسهم وأرواحهم من تيارات الغلو العابر للحدود، قد راهنوا على الجانب الصائب من التاريخ، فها هو ذَا التاريخ يُصوِّب بوصلته، وها هي ذي جدة التي صانت هويتها ضد الغلو تحت درقة سميكة من الثقافة والانفتاح والتماسك الحضاري، دون تفريط أو انفلات.

مجتمع في صالون، هكذا وصف الصديق د. حمود أبوطالب جدة مساء الثلاثاء، في كتابه الذي حمل نفس العنوان، متناولاً، ثالوثية الطيب، هذا الصالون الثقافي الاجتماعي الذي افتتحه ورعاه الأستاذ محمد سعيد طيب طوال ما يقرب من أربعين عاماً.

لا أظن أنه قد خطر ببال صاحب صالون الطيب، أو المشاركين بانتظام فيه، أنهم يصونون هوية حضارية، لمجتمع كان يتعرض لضغوط تحوُّل قسري بفعل قوى التشدد والغُلو، لكنهم دون قصد منهم قد فعلوا ذلك.

كان صالون الطيب منفتحاً على كل التيارات دون إقصاء لتيار، أو تسفيه لرأي، وكان هذا بحد ذاته، صيانة دورية لحقيقة التنوع، ودفاعاً غير مباشر عن الحق في الاختلاف حتى مع صاحب الصالون ذاته، الذي جاهر دوماً بهويته السياسية، لكنه لم يحرم أعتى خصوم تلك الهوية من انتقادها في صالونه، وبقسوة في بعض الأحيان.

وبينما كانت جدة تنعم مساء كل ثلاثاء بصالون صيانة الهوية الجداوية، كان مصطفى إدريس الصديق الذي غادر دنيانا قبل أيام، يصون الهوية كل يوم، كانت لديه ثالوثيته الخاصة يقيمها على مدار الساعة دون تحديد لوقت، ودون دعوة لضيوف.

ثالوثية إدريس، دشّنها حُبّه للحياة، وتقديسه لفكرة الحرية، وللحق في المعرفة، كان مصطفى إدريس، مثله مثل محمد سعيد طيب، أحد الوجوه الثقافية لمدينة استمدت قيمتها من قدرتها الفذة على صيانة هويتها، كانت جدة وما تزال بارة بحضارة أنجبتها، وودودة إزاء رموز أثروا هويتها الحضارية، وصانوا كنوزها.

اليوم، وبينما تستعيد السعودية كلها من أقصاها إلى أقصاها، وجهها الحضاري، واثقة من ذاتها، متصالحة مع مكوّناتها، متطلعة بأمل إلى غد لها، فيه المكان المستحق والمكانة اللائقة، فإن رموزاً ثقافية وفكرية وحضارية، اضطلعت، ربما عن غير سابق تخطيط، بمهمة صيانة الهوية ضد عبث الغلو، وَلَهْو التشدد، وعصف الغلاة، تستحق أن نذكرها بكل الخير.

تحية لكل من تصدَّى للدفاع عن المرأة كشريك في بناء النهضة السعودية، وفيهم الراحل مصطفى إدريس الذي أطلق زاوية باسمها في عكاظ الأسبوعية أسماها (طعم التفاحة).. تحية لثالوثية الطيب، التي قاومت بالغناء تقييد الغناء، وتجريم الفِكر بالفِكر.

تحية لكل من شاركوا بالفعل أو بالقول أو حتى بالصمت، في حماية هوية هذا الوطن، ضد دعاة الغلو والتشدد.

جدة مساء الثلاثاء، ساهمت في استعادة هويتنا كل أيام الأسبوع، أما الراحل المبدع مصطفى إدريس، فقد ساهم بتمرّده على الغلو في صيانة هوية وطن له مكان مستحق في مستقبل الإنسانية كلها.

محمد سعيد طيب متّعه الله بالصحة والعمر المديد، ومصطفى إدريس رحمه الله، ربما لم يلتقيا لسنواتٍ طوال، لكنهما التقيا معاً بتمرّدهما على الغلو، في صيانة هوية حضارية لوطن حجز مكاناً متقدماً في المستقبل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store