Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

جوانب حضارية وثقافية في رحلة ولي العهد

رؤية فكرية

A A
لم تكن زيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -رعاه الله- سياسية أو اقتصادية محضة؛ بل شملت موضوعات يمكن تصنيفها بأنها كانت حضارية وثقافية وفكرية؛ فلقد اختار سموه مدينة باريس متحدِّثًا فيها عن الآثار، ووجوب تطويرها والحفاظ عليها، ولا يخفى أن اختيار باريس له دلالته العميقة والذكية، لأنها تحفل بالمؤسسات العلمية والثقافية والأدبية؛ بل إن كثيرًا من التيارات الأدبية التي أفادت منها آداب الأمم الأخرى، كان منبعها من باريس.

ويعود ما لحق ببعض آثارنا العربية والإسلامية من إهمالٍ وتدمير إلى الآراء الدخيلة علينا؛ مثل التي تأتي من تيارات الإسلام السياسي، والذي تنبهنا إلى مخاطره -بحمد الله- أخيرًا. كما أن السلفية الجهادية المتشددة ساهمت في التخويف من وجود الآثار، وما شاهدناه في العالم العربي والإسلامي، وخصوصًا في الحقبة التي ظهر فيها ما يُسمَّى بالدولة الإسلامية؛ حيث هدمت الآثار، وأحرقت الكتب، ونبشت القبور، مع أن ذلك محرم في الشريعة الإسلامية تحريمًا قاطعًا، لأن الإسلام جاء ليحافظ على النفس الإنسانية، ويصون كرامتها، وما تنتجه، وما تساهم به في إعمار الأرض. بل إن جماعة تُسمِّي نفسها بوكوحرام قامت بحرق زوايا القرآن في تمبكتو، تلك الدولة ذات التاريخ العلمي العريق، كما أنها حرقت مجموعة من الكتب والمخطوطات النادرة زاعمة أنها تحتوي على مخالفات شرعية وعقدية، وذلك كله يدخل في أدبيات الفكر المتشدد. ويجب أن نُقر أنه بعد عام 1979م وما رافقه من أحداثٍ مؤلمة، كان نصيب الآثار كبيرًا من حيث العمل على إهمالها أو هدمها، كما حدث من البعض فيما يُعرف باسم مسجد بني قريظة الأثري، الذي صلى فيه سيِّدنا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وصحابته -رضوان الله عليهم-، عندما حان وقت الصلاة. كما أن مدرسة الإمام علي العريضي ومسجده ذا العمارة الإسلامية الأصيلة تسلَّلت إليه أيادي البعض وقامت بتدميره، وكل الجهات المسؤولة نفت مسؤوليتها عن ذلك الفعل الشنيع، ولم يبقَ مرجع إلا ما يعرف بـ»الاحتساب»، الذي يستخدمه البعض بعيدًا عن معناه ومراميه الأصلية ومقاصده الحقيقية. ولقد أخبرني مَن أثق به، أنه كان يومًا في موقع أحداث واقعة أحد، الموجودة في المدينة المنورة، فرأى أحد المرشدين يُشكِّك في تلك المواقع، فلم يقل إلا كلمة واحدة، «لقد عرفت الأمة بالتواتر أشياء عديدة ومنها هذه الواقعة وما يتصل بها»، وفي أثناء مناقشته العلمية الهادئة مع ذلك المرشد، خرج من مكتب قريب من موقع شهداء أحد، شخص ذو لكنة غير عربية، وطلب من الرجل أن يُخرج بطاقته وهويته ويُسلِّمه إياها، فرفض الرجل، فتابعه صاحب اللكنة الغريبة مع بعض شباب المحتسبين، وحاولوا ثنيه بالقوة عن ركوب سيارته، ولم يحترموا سنَّه ومنزلته الاجتماعية والعلمية، وتساءل: هل بلغ الأمر بهؤلاء المحتسبين وبعضهم غير سعوديين بالتشكيك في هوية الإنسان السعودي تحت ستار التوجيه والنصح، الذي يمسك بعصا غليظة ولا يرعوي أن يهشم بها رؤوس الآخرين؟!.

إن دولتنا السنيَّة جزاها الله خيرًا منذ تأسيسها ووحدتها على يد المغفور له الملك عبدالعزيز، قامت بالحفاظ على المساجد الأثرية وإصلاحها وإعمارها، في مقدمتها الحرمان الشريفان، اللذان لم يشهدا توسعة في الماضي ووجدا الرعاية والتوسعة في العهد السعودي الزاهر على مر حقبه، ومن تلك المساجد أيضًا مسجد الجن في مكة المكرمة، ومسجد المستراح ومسجد الجمعة ومسجد الحليفة وسواها في المدينة المنورة، وبقيت بعض الآثار والمساجد مهملة كمسجد الفتح، الذي صلّى فيه سيدنا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يوم غزوة الأحزاب، ودعا الله فاستجاب له دعاءه. وقبل مدة غير بعيدة كتب بعضهم ومنهم الكاتب في هذه الجريدة الأستاذ أسامة حمزة عجلان بأن المسجد عليه أقفال وفي حالة يفترض أن لا يكون عليها. ومعلوم أن مسجد الفتح من المساجد السبعة، التي قام الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز بتجديد بنائها، عندما كان واليًا على المدينة المنورة. ويطرح سؤال هام: أليس من الأولى أن تنضم مثل هذه المساجد وغيرها من الآثار النبوية المعتمدة إلى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، لرعايتها والحفاظ عليها، وخصوصًا أننا نعيش حقبة فيها من الاهتمام بالآثار والشواهد والمعالم ما يتفق مع تاريخ هذا البلد، وسعي ولاة الأمر به إلى تثبيت الهوية العربية والإسلامية، وهذا ما نشهده واقعًا ونحسه ماثلاً في جهدهم المُقدَّر.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store