Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

صور مؤلمة من عقوق الوالدين

رؤية فكرية

A A
عرفته شابًا طموحًا، قويًا وصحيح البدن والعقل معًا، وبعد ثلاثين عامًا أتاني صوته ضعيفًا وهزيلًا، فسألته عن حاله، فقال لي: يا عزيزي لقد أصبت بجلطة في الدماغ، ولم أشْفَ من آثارها بعد.. فبادرت سائلًا: ومن معك في صحبتك؟ فقال لي: هذه هي المأساة التي هي أشد عندي وأنكأ من المرض نفسه! فلقد طلبت زوجتي الانفصال عني شرعًا، وغادرت المنزل، ومعها عشرة من أبنائي، وذهبت إلى منطقة أخرى لتسكن بعيدة عني، فقلت له: ومن يقوم بخدمتك، والسؤال عنك؟ فقال: عامل النظافة يأتيني كل يوم ليقوم بقضاء حوائجي.. فسألته عن إخوانه وأخواته وأقاربه، فقال لي: لا يسألون عني أبدًا، وكلٌ منشغل في شأنه! وسألته عن آخر مرة رأى فيها أبناءه أو سمع صوتهم، فقال لي: قبل أكثر من عامين، لم أتلقَ منهم خلالها تهنئة بأي مناسبة من المناسبات الدينية التي تجمع الناس، ناهيك عن الأبناء والأهل!!

وفي صورة أخرى من صور هذا العقوق، هو ما نقلته مباشرة وحيًا على الهواء، إحدى القنوات الفضائية العربية، حيث وقفت سيارة وسقط منها رجل طاعن في السن، وبجانبه حقيبة من الملابس، واجتمع الناس حوله، وسألوه: من هذا الذي قذف بك من هذه السيارة؟ فقال: إنه ابني العاق!

وكم كان مؤلمًا ومحزنًا أن نرى مثل هذا العقوق مقارنًا بما كان عليه مجتمعنا، ليس في ما يتصل بالإحسان إلى الوالدين وفق ما أمر الله به شرعًا؛ بل بصلة الود بالآباء والبحث عن المحتاجين من الأقارب والأحباب، وإكرامهم. ولقد رأيت في الماضي، وفي بعض الحاضر، بعض الأبناء، ومنه من تسنَّم وظائف إدارية عليا، كيف يتهافتون على خدمة الوالد والوالدة والدفع بأحدهما في عربة متحركة، والأب والأم يتمتمان بالدعاء، رافعين أكف الضراعة إلى الله أن يحقق لأبنائهم ما يريدون، ومن زرع حصد، فمن سعى إلى رضاء الوالدين سعى أبناؤه في رضائه بكل السبل والوسائل، فهو كما يُقال «دين يقضى»، وأمر جعل الله في كونه ناموسًا وشريعة بأن الله يُجازي الظالم على ظلمه، وليس هناك أفدح ظلمًا من عقوق الوالدين.. ويبقى السؤال مطروحًا، إننا في بلد الإسلام وتطبيق شرع الله الحنيف، ولم نكن نسمع قبل عقد أو عقدين من الزمن بمثل هذه الصور المؤلمة والمفجعة، التي بدأت تطغى على بهاء وجمال ونصاعة الصورة السابقة.

ولعل مما تختزنه الذاكرة أنه عندما كنا صغارًا، نلهو ونلعب في زقة وأحواش المدينة المنورة القديمة، أننا إذا رأينا شخصًا من أصدقاء والدنا وجيرانهم، كنا نهب للسلام عليه، وإذا ما وجهنا من خطأ كنا نزعن ونطأطئ رؤوسنا خجلًا، رافعين صوتنا بالقول: أبشر يا عم، وكيف كنا إذا ما صافحنا أحدا من أساتذتنا المحترمين ننحني ونلثم يديه احترامًا وتقديرًا.

صورتان متناقضتان، وأمر يُحذِّر منه بعض العقلاء، كما نقل لي ولغيري من رواد الخميسية الشيخ أحمد بكري، وطلب من الكُتّاب أن يبحثوا الأمر، ويقلبوه على وجوه العديدة، حتى نضع حدًا لما هو ضد الفطرة ومناقضًا للطبع السليم.. فهل بالإمكان، أسوة بما قام به مجلس الشورى مؤخرًا بإصدار قانون ضد التحرش، أن يصدر قانونًا مغلظًا على قضايا العقوق وما يتصل بها.. إنني أضع الأمر - بعد الله- بين يدي مجلس الشورى، فهو موضوع لا يحتمل التأجيل أو التأويل أو التسويف.. والله من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store