Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

صفقة القرن.. من تهاويم الرؤية إلى حسابات المشروع

الغموض الذي يحيط بـ(صفقة القرن)، قد يسمح ببعض العشم العربي، في تسوية لا تخلو من بعض الكرم، لكن السياسة لا تعرف الكرم، وإن استخدمت العشم بالطبع، والتاريخ لا يحترم من تكرَّموا على مَن لا يستحقون، بما لا يملكون

A A
الإنسان هو المادة الأولية للسياسة، ولأن كل علوم الدنيا لم تفك لغز الإنسان بعد، تبقى السياسة لغزاً يستعصي على الحل، مهما تطوَّرت تقنيات الاستطلاع والتجسس، ومحاولات العلماء في المختبرات لتطوير تقنيات قراءة النوايا.

طبيعي جداً في السياسة أن تقول اللغة شيئاً، وأن يعني قائلها شيئاً مختلفاً تماماً.. كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما (ديموقراطي) يُكرِّر في كل مناسبة التزامه بما أعلنه سلفه، جورج دبليو بوش (جمهوري) بشأن رؤيته لحل مشكلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس قيام دولتين متجاورتين تعيشان معاً في سلام جنباً إلى جنب.

جورج دبليو بوش كان يتحدَّث عن (رؤية)، وهي كلمة محمَّلة بما هو في مناطق التمنِّي، أو حتى الخيال، وملهمة بما هو أسطوري أو خارج مناطق الحساب والرصد.

لم يقل جورج دبليو بوش، لماذا هي (رؤية) وليست (مشروعاً)، ولم يقل لنا لماذا خلا تعهده من أية إشارة عن موقع هاتين الدولتين المتحابتين فوق الخارطة، ولا عن زمن إنجاز تلك الرؤية، ولا عن إطارها الدولي، ولا عن سياقها الإقليمي، باختصار، لم يتحدَّث بوش الإبن بخلفيته البيوريتانية، لا عن الزمن، ولا عن الثمن، ولا عن مَن سيَرسم، ولا مَن سيُنفِّذ، ولا مَن سيُسدِّد الفاتورة، ولا من أي حساب سيتم التسديد، سواء من حسابات في الجغرافيا، أو من حسابات في البنوك.

لم يُقدِّم باراك أوباما (الديموقراطي)، في الملف الفلسطيني، ما يختلف عن سلفه (الجمهوري)، فقط اكتفى بترديد ذات العبارات عن (رؤية) للحل، تعتمد على قيام دولتين متجاورتين، متحابتين، تعيشان معاً في «ثبات ونبات ويخلّفوا صبيان وبنات»!..

بتركيبة رجل الأعمال انتقل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدبلوماسية الحل في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من منطقة (الرؤية)، حيث استدعاء التهاويم واستصحاب الأساطير، إلى منطقة (الصفقة)، حيث ضبط حدود الثمن، واستشراف آفاق الزمن، وباعتبار السلام عند ترامب مقاولة؛ لها أعباؤها، وأرباحها، يحاول الرجل وإدارته، تحديد التكلفة النهائية للمشروع، ووضع الجدول الزمني لإنجازه، دون أن يكشف عن موقع الدولة الفلسطينية المقبلة، ولا عن حدودها، (لم تستخدم تسريبات صفقة القرن أية إشارة إلى قيام الدولتين فوق أراضي فلسطين التاريخية)، ودون أن يفصح بالطبع عن حدود إسرائيل النهائية التي ربما لا يعرفها حتى الأمريكيون أنفسهم.

الغموض الذي يحيط بـ(صفقة القرن)، قد يسمح ببعض العشم العربي، في تسوية لا تخلو من بعض الكرم، لكن السياسة لا تعرف الكرم، وإن استخدمت العشم بالطبع، والتاريخ لا يحترم من تكرَّموا على مَن لا يستحقون، بما لا يملكون.

في منطقة الظنون، تبدو الأطراف الإقليمية -عدا إسرائيل بالطبع- ميَّالة إلى التمنِّي، خائفة من لحظة ملاقاة المجهول. فعلامات الاستفهام ما تزال مشرّعة في كل مكان، لا أحد يعرف مصير سوريا على وجه اليقين، ولا أحد يعرف مستقبل العراق على وجه القطع، ولا أحد يمكنه التكهُّن بما قد تصبح عليه ليبيا غداً، ولا اليمن بعد غد، ولا أحد يقطع بمستقبل الدور التركي في الإقليم، وسط هوى عثمانلي غلَّاب، يُوشك أن يُبدِّل الأولويات في عاصمة العثمانيين الجدد، ولا أحد كذلك يملك يقيناً بشأن المستقبل في إيران، بينما تدخل واشنطن مواجهة ضد طهران، لم تعد تهدف منها تغيير سياسات الملالي، وإنما تغيير الملالي أنفسهم.

إصرار الرئيس ترامب على بلوغ صادرات إيران النفطية النقطة (زيرو) بحلول الرابع من نوفمبر المقبل، يعني أن الرجل يريد الفوز بالضربة القاضية كما في الملاكمة، أو بلمس الأكتاف كما في المصارعة. أو بعبارةٍ أخرى، هو يريد تحويل إيران إلى أرض فضاء، (جروند زيرو)، وهو تحد صعب له ما بعده، على المستويين الإقليمي والدولي. حيث تبدي كل من الصين والهند وهما أكبر مستوردين للنفط الإيراني، ممانعة قوية ضد قرار ترامب، بينما تتأهَّب اقتصادات دول مستوردة للنفط، لمواجهة ارتفاعات كبيرة متوقعة في أسعاره.

أخطر ملامح المرحلة الراهنة في الشرق الأوسط، هي انعدام اليقين، مع تداخل وتضارب المشاهد، والأزمات والصراعات، على نحو يثير الكثير من الالتباس والقليل من الحماس. فلا أحد يعرف مقدار الثمن، ولا أحد يمكنه توقع حدود الزمن.

لا يقين في السياسة، ولا حصانة لأمة ضد مكر التاريخ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store