Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

مسحراتي الضمائر

أغلب من استطلعت رأيهم من العرب حول أسباب تخلفنا علميًا وحضاريًا، وعن أسباب شيوع الفساد بيننا، وحتى عن أسباب خروج جميع الفرق العربية دون استثناء من الدور الأول لمباريات كأس العالم في روسيا، يرد المسألة على الفور، إلى (انعدام) الضمير، أو إلى (ضياع) الأخلاق، أو إلى (عدم) الإيمان، أغلبهم أيضًا يرى أن العلاج هو في استعادة الأخلاق، وإيقاظ الضمائر، والعودة إلى الإيمان.

A A
قبل سنوات خلت استطلعت مجلة أمريكية آراء زوجات أمريكيات حول مدى استعدادهن لخوض تجربة الخيانة الزوجية، فأبدت غالبيتهن التحفظ، ما لم يتأكدن من أن أزواجهن لن يعلموا بأمر الخيانة.

المانع الحقيقي إذن لتجنب الخيانة الزوجية، لم يكن متعلقًا بمعنى الشرف، ولا بمقدار حب الزوجة لزوجها أو أبنائها، أو لأسباب تتعلق بمعتقداتهن الدينية، وإنما فقط بالخوف من انكشاف أمر الخيانة الزوجية... أي أنه مانع عملي أو مادي قاد غالبية أولئك النسوة إلى التزام الفضيلة وتجنب الخيانة.

قبل سنوات أيضًا، انقطعت الكهرباء في نيويورك لبضع ساعات، اندفع خلالها الآلاف إلى مراكز التسوق وراحوا يستولون على ما تصل إليه أيديهم من أطعمة وألبسة وأجهزة، ومستحضرات تجميل، فقط بعدما تأكدوا أن أحدًا لن يراهم، وأن كاميرات المراقبة لن تتمكن من التقاط صور لهم تكون دليلا على ارتكابهم جريمة السرقة.

الولايات المتحدة صاحبة الاقتصاد رقم واحد في العالم، وهي أكبر منتج لأحدث التقنيات في الاتصالات والطب والطاقة والهندسة والنقل والفضاء، وهي أمة بلا تاريخ تقريبًا، بمعايير التاريخ في منطقتنا، حيث يبلغ عمر بعض المنازل (المأهولة) في حي الأزهر بقلب القاهرة مثلًا، أضعاف عمر الولايات المتحدة ذاتها، لكن أمريكا نهضت وسبقت الدنيا كلها بفضل دستور لا يجرؤ أحد مهما كان موقعه على المساس به، وقوانين لا يجسر أحد مهما كان موقعه على التلاعب بها، وكلنا شاهدنا وسمعنا كيف أجبر الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون على الاستقالة لتجنب ملاحقته قضائيًا وسياسيًا وإقصائه عن منصبه، وكيف أفلت الرئيس الأسبق كلينتون من العزل بعدما اعترف بجريمته واعتذر عنها على رؤوس الأشهاد.

دولة القانون هي مصدر القوة الحقيقي للأوطان، وهي كلمة السر وراء نجاحات الاقتصاد، وخلف الانتصارات في الحروب.

حتى في كرة القدم، وفي المنافسات الرياضية، تنتصر الفرق التي تنتمي إلى ثقافات، تعظم القانون وتقدس العدالة، وتكرس المساواة في الحقوق والواجبات دون أدنى تمييز بسبب الدين أو المذهب أو العرق، أو النوع، وهو ما نراه الآن في مونديال روسيا، الذي لم تفلح في بلوغ دور الثمانية فيه سوى ثماني دول أوربية، تلتزم غالبيتها بقيم وقواعد راسخة لدولة القانون، بما يعنيه ذلك من مؤسسات للمراقبة والمحاسبة وحتى المحاكمة إن اقتضى الأمر.

أغلب من استطلعت رأيهم من العرب حول أسباب تخلفنا علميًا وحضاريًا، وعن أسباب شيوع الفساد بيننا، وحتى عن أسباب خروج جميع الفرق العربية دون استثناء من الدور الأول لمباريات كأس العالم في روسيا، يرد المسألة على الفور، إلى (انعدام) الضمير، أو إلى (ضياع) الأخلاق، أو إلى (عدم) الإيمان، أغلبهم أيضًا يرى أن العلاج هو في استعادة الأخلاق، وإيقاظ الضمائر، والعودة إلى الإيمان.

لم يقل لي أي منهم لماذا برأيه (انعدم) الضمير، ولا لماذا (ضاعت) الأخلاق، ولا لماذا (غاب) الايمان، ولا كيف يمكن استعادة كل ذلك، هل من فوق منابر الخطابة، أم عبر تنشيط مسحراتي الضمائر؟!

لم يتحدث أحد عن الاحتيال على القوانين، ولا عن التهرب من الضرائب، ولا عن غياب الاتقان، وعدم الاهتمام بالجودة، لم يقل لي أحد أن غياب الشفافية هو السبب، أو أن ضعف الرقابة هو السبب أو أن الأمان من العقوبة هو السبب.

ثقافيًا، لاحظت ضعف الميل إلى استخدام معايير القياس والتقييم، مع ميل أكثر إلى المطلق فالضمير (انعدم) أي لم يعد له وجود في المطلق، والأخلاق (ضاعت) أي لم يتبق منها أي شيء، والإيمان (غاب) فلم يبق منه في القلب ذرة.

لا توجد ورش لإصلاح الضمائر، ولا توجد قوات للتفتيش عن الأخلاق، ولا توجد ماكينات لاستنبات الإيمان الغائب.. كل تلك الأجهزة التي أناط بها العقل العربي استعادة الضمير والأخلاق والإيمان، لا يمكنها العمل بكفاءة، قبل امتلاك مؤسسات مستقلة مهمتها المراقبة والمحاسبة والمحاكمة، دون أدنى تمييز.

سيفوز فريق عربي بكأس العالم، عندما يصبح لدى العرب مؤسسات للضمير والأخلاق والإيمان تعمل كلها بشفافية تامة لا تعرف المحسوبية ولا الواسطة ولا خاطر عندها إلا للقانون وحده.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store