Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

وكأن العنف الذي فينا لا يعنينا؟

كلما توغلنا في عمق المجتمعات العربية لمسنا الكم اللغوي العنيف لدرجة مخيفة تدفعنا إلى التساؤل: هل بقي شيء يجمع الأشلاء العربية ويعيد بناءها؟ أكاد أجزم بلا أدنى تردد أن ما يحدث اليوم هو مجرد بداية لظواهر خطيرة ومدمرة تمس الإنسان بعمق، حيث يصبح هذا الأخير بلا قيمة تذكر.

A A
العنف لا ينشأ بالصدفة، ولكنه مثل الأرض التي ينبت فيها، عبارة عن طبقات متراصة، الواحدة فوق الأخرى. يتكون داخل الصمت والظلم في شكل ردود فعل صغيرة، مبطنة أو معلنة قبل أن يتجلى في شكل حقيقة حارقة ومدمرة. التفاتة بسيطة نحو ما يحيط بنا يظهر طبقات العنف النائمة في عمق المجتمعات العربية المختلفة والمتنوعة، التي لم تحل أبدًا مشكلاتها الديمقراطية والحياتية، الجوهرية في مسألة العلاقة بين الحاكم والمواطن. ولا نحتاج إلى معرفة كبيرة، فهذه الألغام عندما تكبر وتتسع، تنفجر. وعندما تنفجر تأكل الأخضر واليابس إذ لا جدوى لأي حوار إلا بعد زمن تخسر فيه الدولة المنظمة الكثير، قبل أن ينصاع الجميع إلى فكرة الحوار والبحث عن حلول، بالخصوص في غياب الحسم من أي جهة من الجهات.

ما يحدث اليوم من عنف غير مسبوق عربيًا، شديد الخطورة، من خلال الحروب الأهلية المتفجرة هنا وهناك، في الكثير من البلدان العربية التي وصلت إلى درجة العمى واستعمال الأسلحة المحظورة دوليًا كالكيماوي. أو الحروب البينية العربية العربية. من يتأمل القنوات العربية مثلاً، ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، يلحظ كم أن المؤسسات المجتمعية والسياسية مصابة بداء العنف الذي يصل إلى الأقاصي. حتى المجتمع في مختلف قطاعاته الثقافية وحتى العادية، مصاب بكل أمراض العنف التي تبدأ بالشتم وتنتهي بالتعريض، ونشر الصور الخليعة للخصم حتى ولو كان وراءها الفوتوشوب.

كلما توغلنا في عمق المجتمعات العربية لمسنا الكم اللغوي العنيف لدرجة مخيفة تدفعنا إلى التساؤل: هل بقي شيء يجمع الأشلاء العربية ويعيد بناءها؟ أكاد أجزم بلا أدنى تردد أن ما يحدث اليوم هو مجرد بداية لظواهر خطيرة ومدمرة تمس الإنسان بعمق، حيث يصبح هذا الأخير بلا قيمة تذكر

. مات عشرة أو مائة أو حتى ألف، بسبب لغم، أو قصف جوي، أو تسميم كيماوي، كان وراءه الأخ العدو، غير مهم. الأهم هو البلاء الحسن في الأخ العدو. لكل الوحدات والكيانات العربية التي تأسست في المائة سنة الأخيرة، بعد اتفاقيات سايكس بيكو، يتم تدميرها في العلن ونعرف سلفًا أنه من الصعب بل من المستحيل إعادة بنائها في غياب حقيقي لمصادر المال التي كانت متوفرة. فتصبح الأنانية هي سيدة الموقف وهي شكل من أشكال العنف لأن ما يبنى على أساسها لا يمكن أن تكون نتائجه إلا وخيمة.

قد يحمل المؤرخ اليوم أسباب هذا العنف المتواتر إلى الغرب، وهو أمر غير بعيد عن الصواب. لقد مزق هذا الغرب الأرض العربية بالمسطرة والخطوط الزرقاء والحمراء، فقسم العائلة الواحدة بحدود كان هو من صنعها، لكن ينقص هذا التحليل اليد العربية نفسها التي أخفقت في تسيير الحياة العامة ديمقراطيًا وحضاريًا. من المؤكد أن الغرب كان من وراء تفكيك الأنظمة القبلية والعشائرية القديمة، بدون أن يمنح المجتمعات العربية فرصة الدخول الى الحداثة كنظام حياتي مهما كان الثمن الذي يدفع من أجل هذا الخيار. الحداثة المحولة عميقًا للذهنيات، لوضعها في مصاف الحاضر الحي والمتحرك، وليس حداثة الواجهة ومظاهر البذخ. ما معنى التقتيل والمحو على أساس عرقي وديني وحتى لغوي في السنوات الأخيرة، في مصر، سوريا، لبنان، العراق، الجزائر، تونس، اليمن، ليبيا وغيرها. من خلق القنبلتين الموقوتتين: القاعدة وداعش، اللتين تبنتا أعلى أشكال العنف غير المسبوق، لتدمير ما تبقى من لحمة عربية ووجه نارهما الحارقة إلى الصدر العربي العاري.

العنف ليس حالة طارئة ولكنه عبارة عن طبقات وربما كانت الطبقة البدائية المختفية فيه، في أعمق الأعماق هي ما يستيقظ في نهاية المطاف، وهي الأكثر تدميرًا. قد لا تكون خاصية عربية بقدر ما هي بشرية، لكنها تتعقد في العالم العربي بشكل أشرس لأنها تداخلت عبر التاريخ مع غيرها من الطبقات بدون أن تلقى أي تأمل وأية حلول مقنعة. تحتاج المجتمعات العربية الى أجيال متعاقبة تنشأ في ظروف أخرى أكثر إنسانية وأكثر اعترافًا بحقوقها، لتقتنع بسلطان الحوار وتفادي العنف والعمل على تفكيك قنابله التدميرية المتخفية في أعماق الناس.

من الصعب أن يطلب من شخص كبر في الظلم والانكفاءات، والأوامر الأخلاقية الجاهزة، التي تنادي بالقوة كرهان للحق، وداخل الفوارق الظالمة، أن يكون ملاكًا، وأن يستمع لنداءات القلب والسلام. رومانسية تذوي أمام شراسة الواقع بقوة وعنف. كل تأخر في إيجاد الحلول الضرورية، يزيد من مخاطر المستقبل، بل يحوله إلى رهينة للحروب والعنف المتواتر الذي لا ينتهي. يبدو المشهد العربي خرافيًا، وكأن العنف الذي فينا لا يعنينا مطلقًا؟.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store