Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

القرصنة للمرة الألف؟

قد تتخذ وقتها موقفًا حياديًا وكأن الأمر لا يخصك، ما دامت رواياتك تصل إلى قرائك.. ثم، لنكن صريحين قليلاً، من منا من لم يشترِ قرصًا مضغوطًا به برمجيات الويندوز الجديد مثلا؟ أو قرصًا غنائيًا.. كنا نجد المبررات الكافية لفعلتنا: من حق العالم الثالث أن يتثقف.. ومع ذلك، تظل المسألة الأخلاقية ماثلة مهما كانت المبررات والأسباب..

A A
بعض الصدف تهزنا عميقًا، وتدفع بنا إلى طرح الأسئلة الكبيرة التي لا نملك حيالها الكثير.. تساءلت وأنا أقف أمام بسطة الكتب في أصيلا (شمال المغرب)، أقلب في رواياتي المعروضة للبيع، دون أن أفهم جيدًا ما كان يحدث أمامي؟ كتبي وليست كتبي؟ ماذا ينتابك وأنت ترى عددًا كبيرًا من رواياتك مقرصنة، تباع أمام عينيك بشكل غير قانوني. مجرد سؤال؟ لأن العملية ليست جديدة ولا بسيطة.. فقد رأيت ذلك في أمكنة كثيرة من العالم العربي، في القاهرة، في عمان، في فلسطين، في سوريا (كما أخبرني الكثير من الأحبة هناك)، في السودان، في بغداد، وفي غيرها، حتى أنك تضطر أحيانًا لتوقيعها لقارئة قصدتك وهي غير معنية بالقرصنة، يهمها الكتاب وتوقيعك، كما حدث معي في معرض عمان لدرجة أن أغضبت ناشري لأني وقعت رواية مقرصنة؟ لا أبحث هنا على أي مبرر للقراصنة، المسألة من الناحية الأخلاقية والقانونية، لا غبار عليها، القرصنة عمل مشين يستولي صاحبها علانية على جهد ليس له.. أفهم هذا جيداً.. لكن يظل السؤال معلقًا؟ هل تفرح لأن كتبك تباع بشكل واسع، ولها قراؤها من الفقراء الذين لا يمكنهم موضوعيًا تحمل سعرها الرسمي في الطبعات اللبنانية على وجه التحديد؟

قد تتخذ وقتها موقفًا حياديًا وكأن الأمر لا يخصك، ما دامت رواياتك تصل إلى قرائك.. ثم، لنكن صريحين قليلاً، من منا من لم يشتر قرصًا مضغوطًا به برمجيات الويندوز الجديد مثلاً؟ أو قرصًا غنائيًا.. كنا نجد المبررات الكافية لفعلتنا: من حق العالم الثالث أن يتثقف.. ومع ذلك، تظل المسألة الأخلاقية ماثلة مهما كانت المبررات والأسباب..

أليس حلم أي كاتب كائنًا من كان هو الوصول إلى قرائه في كل الأصقاع العربية، والعالمية إن أمكن؟ أم تحزن بعمق ولا تقبل بهذا الاحتيال والنصب والسرقة التي شرعنها السراق؟ لأن مال رواياتك المقرصنة ينتهي في جيوب القراصنة وليس لمن يستحقه، أَي الأطفال المرضى بالسرطان الذين يفترض أن يستفيدوا من ريع رواياتك؟، هي سرقة موصوفة تحتاج إلى صرامة قانونية.. في أوروبا، مثل هذه الممارسات تنتهي بأصحابها إلى السجن، وهي جريمة كغيرها من الجرائم التي يعاقب عليها القانون.. ماذا عليك أن تفعل في عالم عربي محكوم بالمزاج وليس بالقانون.

كل شيء بدأ هكذا.. كنت في زيارة ثقافية للمغرب الشقيق في طنجة.. وصادف أن كان عندي يوم راحة قبل بدء النشاط، فزرت الصديق الأعز معالي الوزير ورئيس منتدى أصيلة، محمد بن عيسى، والصديق الجميل الروائي الفلسطيني العربي، الكبير، يحيى يخلف، في موسم أصيلة. كنت سعيدًا بالزيارة بعد الغداء معهما وأصدقاء آخرين، خرجت أتجول في المدينة أنا وزوجتي الشاعرة والأكاديمية د. زينب.. مدينة أصيلة، مدينة صغيرة وقسمها القديم ساحر وجوهرة جميلة.. وأنا أستعد للعودة إلى طنجة، تأخرت سيارتي قليلاً، رأيت عند مدخل المدينة القديمة بسطة تعرض كتبًا كثيرة.. لم أملك قدرة المقاومة وتركت السائق الذي وصل، ينتظر.. صاحب البسطة شاب لطيف وجميل وخجول قليلاً.. عرفني وكان مبتهجًا.. تحدثنا عن الروايات الأكثر مبيعًا، ضحك وقادني من يدي وسحبني نحو بعض رواياتي المتوفرة لديه.. عرفت بسرعة أنها مقرصنة.. أغلفتها تغيرت ألوانها، وطارت الردات منها.. طوَّق الياسمين كانت بلون آخر، ونساء كازانوفا بلا ردتين وكأنها فراشة قص جناحاها، أصابع لوليتا لم تبق إلا نسخة بلا غلاف.. ورق كل الروايات أسمر، أقرب إلى ورق الصحف.. قلت له حبيبي هذه كلها نسخ مقرصنة.. سألته عن اسمه من باب الاستئناس فقط.. كان شاباً خجولاً.. شعرت ببعض الخوف يرتسم في عينيه.. عرف سر سؤالي.. قال أنا محمد يا أستاذ واسيني، كتبك لم تقرصن في المغرب، ولكنها أتية من مصر.. مستوردها للمغرب اليوم في السجن، لأن هناك من المكتبيين من تقدم ضده بشكوى.. قلت له لا عليك.. انا مجرد عابر ولست شرطيًا.. رأيت هذا في أمكنة عربية كثيرة زرتها.. ما هي نوعية جمهور قرائك؟ أجاب بمحبة وخجل كبيرين لدرجة شعرت فيها بحرج تجاهه: عمومًا هو جمهور البحارة، الذين بمجرد خروجهم من الشاطئ يأتي الكثير منهم لاقتناء كتاب أو كتابين.. جمهور طلابي وأساتذة الثانويات.. الجمهور الأضعف ماديًا.. الغريب أغلب قرائك من الحسيمة.. لا أعرف السر.. ثم أضاف: أنا سعيد جدًا أني رأيتك.. اشتريت من عنده نسخة مزورة من طوَّق الياسمين، للذكرى، وربما لأريحه بأني لن أرفع شكوى ضده.. رفض استلام حق الكتاب، لكني أصررت عليه.. لا ذنب له.. يعيش من البسطة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store