Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

موت الشعر.. والتوقف عن إنتاج القيمة

في الحقيقة، هذا الوضع هو جرس يدق ناقوس الخطر ليس فقط على موت الشعر، ولكن على موت الإنسان في منطقتنا، بسبب اليأس وانغلاق كل شيء أمامه.. هذا الإنسان بدأ يتحلل حتى قبل أن يموت.. لهذا على النقد الحذر من الأحكام الجاهزة التي تمس الأشكال فقط، وتخرج الشعر من دائرة الحياة.. الشعر قدر الإنسان ومصيره العميق.

A A
بعد كبار هذا الزمن من الشعراء، السياب، البياتي، عبدالصبور، أدونيس، نزار قباني، درويش، سعدي يوسف، وغيرهم قليل، من الذين مع تقادمهم، أصبحوا يشبهون أيقونات أسطورية في سلطانها وقوتها اللغوية، وحضورها المستديم أيضًا وكأنهم فوق الموت.. لا شيء بعدهم، كأن مَعين الشعر جف فجأة وماتت كل المحاولات لاسترجاع شبيه لزمنهم.. هذه الحالة دفعت بالنقد إلى النظر إلى الشعر نظرة الميت كلينيكيًا.. يكاد يلغيه من المشهد وإذا استحضره، فليجلد غيابه وضعفه.. وفي أحيان كثيرة، يمسحه من الوجود بسبب محدودية المقروئية والتوزيع، وكأن العامل التجاري هو الحاسم في التقييم.

السؤال الصغير الذي لا يطرحه النقد، أو يتفاداه هو: لماذا حصر النقد جهوده في الأسماء المعروفة التي دُرست لدرجة الاستهلاك؟ لماذا لم يعمل على اكتشاف تجارب جديدة والسير بها عميقًا نحو الواجهة الأدبية والإعلامية؟ موت الشعر مرتبط بقلة جماهيريته، لأنه ما يزال في رؤوسنا تاريخ غنائي شعري لم يعد اليومي موجودًا. يوم كان شعراؤنا يملؤون، ليس القاعات، ولكن الملاعب مثل نزار قباني، مظفر النواب، أو درويش. لهذا هل مقولة موت الشعر التي يتغنى بها النقد، هي موت للقيمة، أم انتهاء النموذج القديم الذي تعودنا عليه وأصبح من الصعب علينا التخلي عنه في زمن سيدته الحرية والتحولات المتسارعة؟ على النقد العربي أن يتنبه لهذا بجد.

كان اللورد بايرن ماجنًا وسكيرًا لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون شاعرًا عظيمًا، لأنه أنتج القيمة التي تتخطى العصور والأخلاق.. ت. س. إليوت كان عاشقًا لموسوليني ويحضر محاضراته، لكن ذلك لم يمنع شعريته من أن تتجلى وتقوده حتى نوبل.. لا علاقة للشعر بالأخلاق في مفهومه الضيق..

خفت الشعر العربي لأنه لم يعد قادرًا على إنتاج القيمة الغائبة، التي تحركها قوة الموهبة، والتجربة الذاتية، في علاقتها بالمعطى الاجتماعي والسياسي.. المسألة تتجاوز الحالة العربية.. عاد الشعر عالميًا إلى حجمه الأول في القرن السابع عشر والثامن عشر، نحو حلقاته الضيقة التي تسمع لبعضها، ضمن جمهور شعري ضيق ومحب.. فقد أفل المنطق الذي نشأ فيه، أي الحلم بعالم آخر أفضل وأجمل.. موت الشعر هو موت الإنسان.. والإنسان اليوم يموت بالفعل.. وتموت قيمه، بل حتى الطبيعة التي تمنحه الأكسجين والحياة.. وتنشأ محلها قيم أخرى مرتبطة بالجشع والفردية الضيقة، وكأننا نستعيد العوالم السابقة.. العودة الأبدية على تعبير نيتشه.. الزمن تغير، والجمهور الأول الذي صاحب عزة الشعر، لم يعد موجودًا، إما شاخ، أو التفت صوب أشكال أخرى في ظل يأس مستشرٍ، كالرواية، أو بكل بساطة مات.

ندرك عميقاً أنه عندما يتراجع الشعر هذا يعني حتمًا أن العالم مريض، وأن الحلم تراجع، أو لم يعد موجودًا، وأن طفولتنا انتكست، وأننا أصبنا بالعمى، لذلك لا نرى أي مستقبل. على النقد أن يتنبه لهذه التكسرات الداخلية في محمول وجسد القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة، بدل الرفض القطعي لكل ما ينتج اليوم، وغير قادر على إنتاج القيمة.

في الحقيقة، هذا الوضع هو جرس يدق ناقوس الخطر ليس فقط على موت الشعر، ولكن على موت الإنسان في منطقتنا، بسبب اليأس وانغلاق كل شيء أمامه.. هذا الإنسان بدأ يتحلل حتى قبل أن يموت.. لهذا على النقد الحذر من الأحكام الجاهزة التي تمس الأشكال فقط، وتخرج الشعر من دائرة الحياة.. الشعر قدر الإنسان ومصيره العميق.

عندما تحللت الملاحم اليونانية، كانت رؤية ما للعالم تنتهي في ظلها.. قبل أن يظهر إلى الوجود إنسان آخر، له حروبه وأطماعه، وله أشكاله التعبيرية، منها الرواية التي جاءت على أنقاض قلب الهرم.. سيرفانتس لم يفعل الشيء الكثير، سوى أنه جعل من الإنسان الغريب عن قيمه، أساس المعادلة البشرية المعقدة. لم يعد المشكل مع أي شيء، ولكن مع الإنسان. ما فعلته الرواية في الشعر الملحمي كان خطيراً. نزعت أجنحة ملاك الشعر ولم تسمح له بالطيران بعيدًا.. مجبر على مجابهة أقدار الأرض.. هناك قانون عظيم في الطبيعة متعلق بالفن.. الأشكال لا تموت بإرادة خارجية، ولكن لأنها أنتجت موتها داخلياً بنفسها.. وإذا مات الشعر، فلأن شيئًا في داخله يسرِّع في موته قبل أن تبرز من داخله حياة أخرى لا أحد يعرف اليوم كيف ستكون في المائة سنة القادمة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store