Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

قوة «الصورة» الشعبية

التليفزيونات العربية الرسمية أثبتت فشلها وهزالها في المتابعة وإعطاء صورة أخرى أكثر جرأة عما يحدث بالقرب منها، ولكنها ما تزال مكبلة بشرطية الرسمي وتعيد إنتاج نفس الخطابات ولم تطور نفسها في زمن كل شيء أصبح يتحدد من خلال الوسائط الحديثة.

A A
يمكننا أن نجادل طويلاً في مآلات الثورات العربية (الانتفاضات)، ما لها وما عليها، كيف بدأت قوية ثم خفتت، لكن الأمر الذي لا يختلف عليه اثنان، هو العلاقة مع الصورة، لم تعد علاقة حيادية لأنها، على قسوتها أحيانًا، أصبحت من يوميات المواطن العربي، حتى ولو كان وراء تلك الصورة، خطاب مقصود، وهدف، وفئة أو فئات معنية به. لا توجد حيادية مطلقًا. لا ننتج للفراغ، أو للوهم.

فقد خلقت الثورات العربية في بداياتها طريقة جديدة في التوثيق والجري وراء الحقيقة من خلال الصورة الملتقطة بالموبايل، أو الهواتف الذكية أو أي وسيط، أو ما يمكن تسميته بالإعلام الشعبي. لم يعد الجانب التقني في الصورة هو الحاسم، القيمة تتحدد بالمحمول المبطن. أصبحت الصورة شهادة ضد ما يحدث، وكأنها العين الخفية الحاملة للحقيقة، في ظل المنع الرسمي للتصوير. أو تدخل الدول التي كانت تعيش غليانًا شعبيًا عارمًا وتعودت على إعلام رسمي متكلس كليًا، لا يتحرك إلا وفق مسبقات يحددها النظام وليس الإعلامي العارف للميدان.

التليفزيونات العربية الرسمية أثبتت فشلها وهزالها في المتابعة وإعطاء صورة أخرى أكثر جرأة عما يحدث بالقرب منها، ولكنها ما تزال مكبلة بشرطية الرسمي وتعيد إنتاج نفس الخطابات ولم تطور نفسها في زمن كل شيء أصبح يتحدد من خلال الوسائط الحديثة.

الصورة الشعبية الحية لعبت دورًا مستفيدة من تجارب المراسلين الحربيين الذين التقطوا صورًا ما تزال إلى اليوم شاهدة على قسوة الإنسان في الحروب، وتوحشه.. لا يهتم المراسل الحربي بجمالية الصورة التي يلتقطها تحت الرصاص والقصف وهو لا يعرف متى يموت، إذ يمكن أن يصاب في أية لحظة.. ولكن رهانه هو الصورة نفسها الحاملة لرائحة بارود المعارك. جماليتها في العرق والخوف الذي تخفيه وراءها لتصل إلى المتفرج أو المستهلك. ليس غريبًا أن تكون الوسائط الاجتماعية الحديثة كالنت، والتويتر والفيسبوك واليوتوب وغيرها قد لعبت، وتلعب الدور الحاسم في التجنيد وتمرير الخطاب الذي يُراد له أن يمر. كل شيء تغير وقتها، في محيط هذه العمليات التواصلية إلا التليفزيونات الرسمية المستقرة في نظامها الميت؟ مهما كانت التبريرات الأمنية التي تسوقها إلا أنها تظل حبيسة الرؤية الرسمية التي تتخفى وراءها. من السهل أن تكيل كل تهم الدنيا ضد القنوات العميلة؟ ولكن من الصعب أن تشتري المصداقية المفقودة. فالمواطن، حتى الأكثر ارتباطًا بقناته الوطنية، سيضطر إلى البحث عن المعلومة في أمكنة أخرى مسماة عدوة، ليفهم ما يحدث في أرضه وربما بجانب بيته، مع إمكانية السقوط في صلب الغلاف الإيديولوجي للخبر المصاغ وفق خط القناة وأهدافها. المشكلة في النهاية هي مشكلة عقل معطل ما يزال يشتغل وفق نمطية لم تتحرك كثيرًا عن نظامها الأول، بكل ما يحمل هذا النظام من تخلف ومصالح مادية ومكاسب صغيرة. هناك ضياع للمتفرج وسط هذه الرؤى الرسمية والثائرة، التي أصبحت مفتوحة، الغلبة فيها دائمًا للصور الحرة والإعلام الشعبي، لأن كل ما يقال عن الأنظمة العربية في عمومها، محتمل الوقوع. تحتاج هذه الأنظمة إلى جهد مضاعف ومصداقية أكبر، وصور أكثر ذكاء لتستطيع أن تقنع الناس وتغير في ميلان الكفة إعلاميًا.

أكبر قيمة للصورة الشعبية هي أنها تنتج خارج الرقابة.. الرقابة تبدأ عندما تدخل إلى القناة لبثها وعرضها.. سنكون أغبياء إذا اعتبرناها ونحن نراها ونستهلكها، عفوية كلياً. الرقابة، كيفما كانت، رسمية أو منتفضة، تُظهر منها ما تشاءه ويخدم مشروعها، وتهمل ما لا يستجيب للخط المتبع. المشكل الأكبر في المعادلة هو الجمهور المتلقي الذي لا يملك عينًا ناقدة وعلاقته بالصورة غير متطورة، تلتقط كل شيء على أنه حقيقة مطلقة ينشئ من خلالها حكمًا خاصًا. فتتم بالتالي صناعة رأي عام قد لا يكون صحيحًا، لأن الكثير من الصور الحقيقية لن تظهر إلا بعد سنوات مثلما حدث في رومانيا، في تيميشوارا مثلاً مع القناة الفرنسية الخامسة التي بثت صورًا لجثث متراكمة على أساس أنها من فعل نظام شاوشيسكو قبل أن يتضح أن الأمر مركب تركيبًا مفضوحًا، وأن الجثث جلبت من مقابر مختلفة. لكن لا قيمة لهذه الحقيقة الثانية، أي التركيبية، لأن الصورة أدت غرضها ووظيفتها بإسقاط النظام وكل ما يأتي لاحقًا لا تأثير له؟ وربما خطر الصورة هو هنا، في ظل غياب صور بديلة تستطيع أن تخلق توازنًا وتمنح المتفرج فرصة أخذ الأشياء بنسبية. الثورات العربية كسرت نسبيًا هذه الصورة، وراحت تصطاد الصورة من الميدان الفعلي للمعارك، لكنها هي أيضًا لا يمكنها أن تنجو من سلطان الرقابة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store