Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

عن السلاح والثروة والمعرفة

القدرة العسكرية وحدها لم توفر حصانة لإمبراطورية عظمى كالاتحاد السوفييتي، وتراكم الثروة لم يوفر مناعة كافية لدول غنية كاليابان وكوريا الجنوبية، لكن التراكم المعرفي، والتطور العلمي يستطيع، توليد القدرة، وتراكم الثروة.المعرفة إذن هي المصدر الحقيقي للقوة الذي لا يمكن أن ينضب، والطاقات البشرية المؤهلة بالمعرفة وبالعلم وبالثقافة، هي الثروة الحقيقية القادرة بذاتها على استنبات القدرة العسكرية واستحضار الأمن، واستنفار طاقات الأوطان.

A A
دارت بنا الأيام، وجمعتنا مجدداً، بعدما ظن أغلبنا أن لا تلاقيا، عدنا وفي جعبة كل منّا حصاد غياب طويل امتد لأكثر من ثلاثين عاماً، فينا من هو صحافي أفنى عمره في مهنة البحث عن المتاعب، وفينا من هو دبلوماسي ارتقى أعلى الدرجات في سلم الوظيفة الدبلوماسية، وتنوعت خبراته المهنية والسياسية والمعرفية، وفينا من هو ناشر مخضرم اجتمعت له خبرات عصر الحبر والورق، مع خبرات عصر النشر الإلكتروني، ومن هو عالم بشؤون الطاقة النووية، تجمعت لديه خبرات العمل مع المنظمات الدولية والإقليمية، ومن هو أكاديمي عايش تحوّلات الحياة الأكاديمية في بلادنا عبر ثلاثين عاماً أو يزيد، ومن هو مترجم بالأمم المتحدة طاف أرجاء عالم مأزوم، فكان بين خبراء التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق، وكان بين خبراء أمميين يُعالجون حروب أمريكا اللاتينية وغرب إفريقيا، والبلقان.

حاولت ضبط بوصلة الحوار المشحون بأشواق الغياب وخبراته، فطرحتُ سؤالاً ربما بدا فلسفياً، أتاحته لي فرص التأمل خلال أعوام ما بعد التقاعد، كان سؤالي هو:

أيها أكثر تأثيراً، كمصدر لقوة الدول، هل هي القدرة العسكرية، أم مخزون الثروة، أم التراكم المعرفي؟!

استطاعت القدرة العسكرية، أن تظفر بالنصر في بعض المعارك، التي حفظها لنا التاريخ، لكنها لم تربح حرباً بصورة نهائية، أي أن القدرات العسكرية المطلقة تستطيع إلحاق هزيمة بالخصم في ساحات القتال، لكنها وحدها لا تستطيع تغيير أفكار العدو، أو تطويعها لإرادة المنتصر على نحو مطلق.

الاتحاد السوفييتي مثلاً، في ذروة قوته العسكرية في سنوات الستينيات والسبعينيات وشطر من الثمانينيّات، استطاع اجتياح المجر عام ١٩٥٦ لقمع انتفاضة المجريين ضد الحكم الشيوعي، وكرر الاجتياح عام ١٩٦٨ ضد تشيكوسلوفاكيا لقمع ما عرف وقتها بـ(ربيع براغ)، مرت مغامرات موسكو العسكرية من تحت أنف الولايات المتحدة وحلف الناتو، دون أن يجرؤ أي منهما على تحدي موسكو على الأرض، لكن الاتحاد السوفييتي كله ومعه حلف وارسو بأكمله، انهارا تماماً في مطلع التسعينيات دون طلقة رصاص واحدة، انهزمت القدرة العسكرية المطلقة، ولم يتمكن الاتحاد السوفييتي من حماية صميم وجوده، رغم امتلاكه قدرات نووية كانت قادرة بذاتها على تدمير كوكب الأرض كله ست مرات.

غياب التراكم الرأسمالي، أجبر الإمبراطورية السوفيتية على التفكك، والتحلل، والهزيمة، رغم حضور القوة العسكرية المطلقة بأعلى تجلياتها، إذ لم يتمكن الاقتصاد السوفييتي من تحمل الأعباء المالية لسباق تسلح في الفضاء الخارجي، استدرج الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، قادة الكرملين إلى مصيدته المميتة.

هل معنى هذا، أن التراكم الرأسمالي هو مصدر القدرة في المطلق، لقد كان السوفييت متطورين علمياً وعسكرياً وتسليحياً، لكنهم سقطوا تحت وطأة استنزاف مالي لثرواتهم، تسارع إيقاعه بفعل التورط في حرب طويلة بأفغانستان، وفي سباق تسلح مع واشنطن، التي لم تكن مرهقة مالياً بأي حال؟!

قال صديقنا الدبلوماسي المخضرم: إن تراكم الثروة لا يمكن أن يمنح صاحبه حصانة مطلقة ضد المخاطر والتهديدات، ولا يمكن أن يكون بذاته مصدراً للقوة، واستعرض نماذج لدول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا (الغربية) خلال سنوات الحرب الباردة، وحتى بعدها، ففي هذه الدول الثلاث حدث تراكم هائل للمعرفة، صاحبه تراكم هائل آخر في الثروة، لكن تراكم الرأسمال، وتراكم المعرفة لم يستطيعا وحدهما أن يمنحا تلك الدول الكبرى شعوراً بالأمان، خاصة في ضوء تحولات في السياسة الأمريكية، عبرت عنها تهديدات الرئيس الأمريكي ترامب لحلفائه بأنهم يتعين عليهم أن يسددوا للولايات المتحدة فاتورة حمايتهم.

القدرة العسكرية وحدها لم توفر حصانة لإمبراطورية عظمى كالاتحاد السوفييتي، وتراكم الثروة لم يوفر مناعة كافية لدول غنية كاليابان وكوريا الجنوبية، لكن التراكم المعرفي، والتطور العلمي يستطيع، توليد القدرة، وتراكم الثروة.

المعرفة إذن هي المصدر الحقيقي للقوة الذي لا يمكن أن ينضب، والطاقات البشرية المؤهلة بالمعرفة وبالعلم وبالثقافة، هي الثروة الحقيقية القادرة بذاتها على استنبات القدرة العسكرية واستحضار الأمن، واستنفار طاقات الأوطان. ولكن كيف الوصول إلى محراب المعرفة؟.. هذا سؤال أفنت شعوب الشرق القديم عمرها جله دون أن تمسك بتلابيب الإجابة عنه، كما يقول صديقنا الناشر المخضرم، فأهل الشرق يتعين عليهم أولاً امتلاك القيم التي تجعل بلوغ محطة المعرفة أمراً ممكناً، وهم بعد لم يفعلوا، كما يقول صديقنا المترجم الأممي.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store