Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

التنوير والامتطاء الأيديولوجي

وما لم يكن للتنويريين العرب فلسفتهم الذاتية ومشاريعهم المختلفة فلا فرق بينهم وبين السلفيين، فكلهم مرتهَنون للماضي وأمواته، ممارِسون للامتطاء الأيديولوجي للتراث. ثم إن الملاحَظ أنه ومع كل هذا الالتزام الخطابي بآراء الموتى والامتطاء الأيديولوجي للتراث التنويري من قِبل التنويريين العرب إلا أن معظمهم لم يأخذ من التنوير إلا ما يضمن له التزيي بزيه الزاهي فقط دون (الالتزام الكلي) بمقتضياته.

A A
لاينفك بعض التنويريين العرب عن وصم السلفية بالأصولية أو الماضوية؛ كون أتباعها يصدرون في آرائهم عن آراء (أسلافهم الموتى) الذين تفصلهم عنهم قرون عديدة، ولا يأخذون تلك الآراء في سياقها التاريخي، ولا يقرؤونها في ظل معطيات الحاضر ونوازله. لكنَّ السؤال الإشكالي هو: هل يختص ذلك الوصم بتيار السلفية وحده، أم أن التيارات جميعها سلفيةٌ، لا تنفك عن العودة للموتى؟.. ظل هذا السؤال يشغلني وأنا أشاهد مَن يتسمَّون بالتنويريين العرب يعودون -زمنيًّا- أبعد مما يعود إليه السلفيون؛ فالسلفيون يعودون أربعة عشر قرنًا للوراء، في حين يعود التنويريون إلى أبعد من خمسة وعشرين قرنًا، إلى عصر الفلسفة اليونانية الكلاسيكية (سقراط، أفلاطون، أرسطو) وما قبله، وكنت مؤمنًا أنه لا فرق بين معظم التيارات في منطلقاتها، وأنها في نهاية الأمر تجمعها صفة (الارتهان للموتى)، حتى قرأت في العدد الأخير (٥٠٣ - ٥٠٤) من مجلة الفيصل مقالاً (خارجًا عن النَّص) للباحث المصري (مدحت صفوت) عنونه بـ(المثقف العربي والامتطاء الأيديولوجي للتراث.. ابن رشد أنموذجًا) فزاد إيماني بأن التيارات معظمها في (الأصولية والماضوية، بل والأيديولوجية) سواء، فجميعها تصدر عن آراء الموتى في التعامل مع الراهن حتى -بحسب صفوت- وإن «بدا نفورٌ تنويريٌّ من العبارة السلفية، لكنه يظل نفورًا خطابيًّا لا أكثر». ضرب صفوت في مقاله مثالاً على نكوص التنويريين واتكائهم على الموتى بنكوصهم على الفيلسوف العربي أبي الوليد ابن رشد، فهو يرى أن كُتاب التنوير العربي احتاجوا «إلى آباء يؤسسون لهم حداثتهم المنشودة، ويُكسبون أطروحاتهم أصالة تاريخية». وحينما يعود التنويريون للتراث فهذا يعني -بحسب صفوت- أن التعصب للتراث ليس مقصورًا على السلفيين؛ فبعض التنويريين والعقلانيين الرشديين «لم يبرحوا القرن السادس الهجري، وتنتمي أطُرهم الفكرية إلى عصر مر عليه تسعة قرون.. وهو منطق الأصوليين الذين يتعاملون مع التراث الدِّيني بوصفه -بطبيعة لا تاريخية- متجاوزًا الأُطُر الزمكانية، وبات النص الرشدي في عيون المحدَثين كنص أرسطو من وجهة نظر أبي الوليد نفسه (منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية)». وعندما يوجَّه النقد للتنوير يصاب التنويريون بحالة من التعصب لآرائهم (دوغمائية)، وهي حالةٌ كما يقول صفوت «تتلبس كثيرين من التنويريين كما تصيب السلفيين والنصوصيين، معتبرين أن حل مشكلاتنا في الوقت الراهن لابد وأن يستمد من الماضي، وهو زمن لايقبل النقد ولا النقض بوصفه حقبة ذهبية (إيمانية صحيحة) لدى السلفيين، (وتنويرية عقلانية) لدى الفريق الآخر»، ويعلل حالات الفشل التي أصابت مشاريع التنوير الرشدية كونها «قائمة على استدعاء التراث والاستقواء به». الكاتب أورد ثلاثة نماذج فكرية قدَّمت صورة متخيلة لابن رشد وكتاباته محاوِلةً استغلاله «في إكساب خطاب التنوير شرعية تراثية» وتتمثل في التنوير المزيف عند (عاطف العراقي) في تعصبه لابن رشد، وثنائية ابن تيمية وابن رشد عند (مراد وهبة)، والتلفيق الرشدي عند (محمد الجابري). وعليه، فنحن بحاجة لتنوير عربي لا يرتهن للموتى أو يلوذ بالتراث، وإلا فهو تنوير سلفي نصوصي، وبحاجة كما يقول المفكر طه عبدالرحمن إلى «أن نجتهد في إنشاء فلسفة خاصة بنا تختلف عن فلسفة أولئك الذين يسعون إلى أن يَحُولوا بيننا وبين ممارستنا لحريتنا الفكرية»، وما لم يكن للتنويريين العرب فلسفتهم الذاتية ومشاريعهم المختلفة فلا فرق بينهم وبين السلفيين، فكلهم مرتهَنون للماضي وأمواته، ممارِسون للامتطاء الأيديولوجي للتراث. ثم إن الملاحَظ أنه ومع كل هذا الالتزام الخطابي بآراء الموتى والامتطاء الأيديولوجي للتراث التنويري من قِبل التنويريين العرب إلا أن معظمهم لم يأخذ من التنوير إلا ما يضمن له التزيي بزيه الزاهي فقط دون (الالتزام الكلي) بمقتضياته.
*وقفة: بتاريخ أمسِ (١٤٤٠/١/٢٩هـ) أكون قد أمضيت عَقدًا (١٠ سنوات) من الكتابة (المنتظِمة) في هذه الصحيفة العريقة «المدينة» اشتغلتُ فيها على بعض القضايا الثقافية والفكرية والاجتماعية. وسيبقى المداد -بإذن الله- مندلقًا.. فشكرًا لصحيفة المدينة ولوعي القراء.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store