Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

هل المتخيل يحرر الرواية التاريخية من يقينها؟

هل كل ما رواه شكسبير أمامنا كان تاريخًا بحتًا؟ بالتأكيد لا.. وإلا فاين ملمس الكاتب؟ أعتقد أن عظمة شكسبير تتلخص في هذه الحرية التخييلية التي استطاع بها حقن التاريخ لنفضه من كتل الرماد والطمي التي تثقله.. لو استعاد التاريخ فقط، بدون تخييل، في أفق ما تمنحه المادة المسرحية، لبقي كاتبًا متواضعًا.

A A
سؤال قليلاً ما يطرحه الكاتب على نفسه، مع أنه أكثر من ضرورة ثقافية لأنه -أي الروائي- متهم منذ البداية بالسطو على التاريخ الذي هو خزان عام ومنجز، وقلة الإبداع، إذ وفق هذه الرؤية، ليس على الكاتب التاريخي إلا الغرف من مادة ثقافية أنجزها المؤرخون. ونعرف أيضًا أن الرواية التاريخية، التي استسهلها البعض، هي من أقسى وأصعب الأنواع الأدبية، وأقلها مردودية لأن الجهد المبذول فيها ضخم، والاعتراف قليل، وإمكانات الانزلاقات التاريخية كثيرة. التاريخ في النهاية هو سلسلة من الاجتهادات بحسب الموقع الذي يحتله المؤرخ وليس يقيناً، ثم إن النقد لا يرحم، وكأنه على الروائي أن يكون مؤرخًا في نهاية المطاف، وعليه أن يحترم دقائق الأمور، وهو أمر غير مقبول طبعًا.

المعضلة الأولى، هي أنه إذا سلك هذا المسلك، سيخسر التاريخ، لأنه لن يكون وفيًا له، بحكم اشتغاله الروائي، وطبيعته التخييلية والتساؤلية إذ لا يوجد تاريخ واحد متفق عليه، يمكن اعتماده، لكنه عليه أن يبحث ويجتهد ويختار وفق مقتضيات الرواية، واشتراطات النص الفنية، في عالم يقل اتساعًا في كل زمن، ويضيق أكثر فأكثر، ويتصلب لرؤاه.

والمعضلة الثانية في اللعبة الثنائية تاريخ/ رواية، لن يربح الرواية لأنها لن تكون إلا تاريخًا ممسوخًا، مقتفيًا يقينًا تاريخيًا يمكن نسفه في أية لحظة لتصبح الرواية في أثره مجرد حفنة رماد. لهذا طرْحُ كاتب الرواية التاريخية على نفسه هذا السؤال يدخل في سياق الأمور الطبيعية التي يجب أن تكون وإلا ما جدوى الكتابة الروائية التاريخية؟ إدراج المتخيل في الرواية التاريخية يفتح أمامها الأبواب المغلقة لتؤكد أدبيتها ونوعها. المتخيل، بطبيعته التكوينية والبنيوية، يمنح بياضات التاريخ فرصة للخروج من الضوابط المغلقة. يحرر التاريخ من انضباطه الأفقي، والمسطح أحيانًا الذي كثيرًا ما يحد من إمكانات الحرية الكتابية التي ينزل بالنص نحو أعماق الذات الإنسانية المعقدة التي يقف التاريخ حيالها مرتبكًا وعاجزًا إذ لا تهمه في النهاية نهائيًا، تاركًا إياها لعلم آخر هو علم نفس الأعماق، ومهتمًا بشكل لا يقبل الجدل بالأحداث التي انتهت، وماتت واستقرت، في حين أن كاتب الرواية التاريخية يحاول أن يشعل فيها جذوة الحياة إذ بدون ذلك سيولد النص ميتًا، ولا يصلح حتى للكتابة الإبداعية.

هذه واحدة من المهام الحيوية للكاتب لجعل التاريخ يتكلم، وحياً، ويجعل القارئ معنيًا به، وهي ليست أبدًا مهمة المؤرخ. التخييل ممارسة إبداعية مضادة للتاريخ أصلاً. في الوقت الذي تتوقف فيه جهود المؤرخ على حواف المنجز والمنتهي، يذهب الروائي بعيدًا متوغلاً في هذا الرماد المتشكل من الممارسات الفردية والجماعية، داخل نيران الحروب. يتوقف طويلاً على حدث أو شخصية قد تكون ثانوية، ويبدأ في التفتيش اليائس أحيانًا، في الرماد أو بقايا البقايا. ما يقوله المؤرخ في جملة هاربة، واختزال قرون في كلمات، يذهب الروائي نحو التفاصيل الغائبة لاستعادة قرن بكامله. لهذا فالروائي مضاد عمليًا لمنطق المؤرخ. يحرر التاريخ من يقين غير ثابت، ويمنحه فرصة أن يحدث من جديد كما لو أنه يحدث لأول مرة، ويمنح القراء فرصة أن يروا مشهدية الحدث أمام أعينهم، كما لو أنها تحدث الآن، مثلما هو الحال في السينما، أو حتى في المسرح، أحيانًا حيث يؤدي الأبطال أدوارهم التراجيدية أمامنا، بألم ينتقل منهم نحونا.

هل كل ما رواه شكسبير أمامنا كان تاريخًا بحتًا؟ بالتأكيد لا.. وإلا فأين ملمس الكاتب؟ أعتقد أن عظمة شكسبير تتلخص في هذه الحرية التخييلية التي استطاع بها حقن التاريخ لنفضه من كتل الرماد والطمي التي تثقله.. لو استعاد التاريخ فقط، بدون تخييل، في أفق ما تمنحه المادة المسرحية، لبقي كاتبًا متواضعًا.

شكسبير (1564-1616) حرر التاريخ في الملك جون، وإدوارد الثالث، وغيرهما، من وهم الحقيقة المطلقة التي لا توجد إلا في ذهن من سجلها، ووضع أمامنا تاريخا آخر، حيًا وقلقًا، وبشريًا، بقوته وضعفه، ومنحنا فرصة أن نتأمله. وماذا قال، كاتب عظيم مثل تولستوي (1828-1910) في الحرب والسلام التي كتبها في 1860، فترة اجتياح نابليون روسيا، بينما الطبقات الفاسدة ظلت تعيش فسادًا ماليًا وأخلاقيًا غير مسبوق؟ وماذا فعل نيكوس كازانتزاكيس (1883-1957) في الحرية أو الموت؟ وماذا فعل أندري مالرو (1901-1976) في الشرط البشري في الحرب الصينية وزحف تشانكاي تشيك نحو شنغهاي، وكيف اغتالت العصابات الخضراء آلاف العمال؟ تتخفى حروب شرسة وراء هذه النصوص، لكن تتخفى وراءها أيضًا مصائر بشرية، لولا قوة النص التخييلية وحريته، لما وصلتنا بتلك القوة، وذلك الاستثناء.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store