Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

معضلات الشخصية التاريخية روائياً

من هنا يبدو أن أول رهان كاتب الرواية التاريخية أن يسيطر على مواصفات شخصياته التاريخية والاقتراب منها بشكل أعمق يتجاوز المظاهر الخارجية فقط، ويسيطر أيضاً على مساحات عمله بجدية وارتداء قناع المؤرخ. في الوقت نفسه لا ينسى أنه يعمل على رواية ويشتغل في تفاصيلها، وليس بصدد عمل تاريخي

A A
الشخصية التاريخية روائياً، مشكلة حقيقية في سياق الكتابة الإبداعية، الروائية تحديداً. وأعتقد أنها أهم ما يعيق الرواية التاريخية إذ تضع الكاتب وجهاً لوجه أمام حقيقة مادية من الصعب عليه تجاوزها وتخطيها. وكثيراً ما تسببت في مشكلات عائلية أو سياسية، إذ يُتهم الكاتب الروائي مثلاً بأنه خرج عن الحقيقة الموضوعية، وصوَّر حقيقة افتراضية. يحضرني في هذا السياق الروائي الفرنسي، باتريك رامبو الذي كتب ثلاثية نابليون: كان الثلج يسقط، المعركة والغائب، التي حاول فيها أن يخلق شخصية أخرى، تكاد تكون موازية للشخصية الحقيقية، لا تشبه نابليون إلا في ملامحها العامة، لكن الجوهر هو شخصية أقرب إلى الافتراضية أو الأدبية التي ينطلق فيها الكاتب من تفصيلات صغيرة، ينجز من خلالها نصه وشخصيته كما رآها هو في إبداعه. بعيدون جدا عن هذا التصور الحر، عربيا. جاذبية المرجع، بل إجباريته هي الشكل الوحيد المقبول، ما عداه، فهو خيانة إبداعية وتاريخية أيضاً. من هنا يبدو أن أول رهان كاتب الرواية التاريخية أن يسيطر على مواصفات شخصياته التاريخية والاقتراب منها بشكل أعمق يتجاوز المظاهر الخارجية فقط، ويسيطر أيضاً على مساحات عمله بجدية وارتداء قناع المؤرخ. في الوقت نفسه لا ينسى أنه يعمل على رواية ويشتغل في تفاصيلها، وليس بصدد عمل تاريخي. سيظل، بكل تأكيد، التاريخ سنده الكبير، لكنه ليس غايته في النهاية. ولا يهدف إلى إنتاج تاريخ موازٍ. كل عمله التاريخي الصعب هو اقتفاء الشخصية التاريخية في تفاصيلها الحياتية وفيما يمكن تخيله أيضاً لإغنائها داخلياً. العمل التاريخي البحت، ليس في النهاية إلا تجربة هامشية لمعرفة جوهر موضوع شخصيته، لفهمها جيداً، وربما فهم العصر كله من خلالها. لهذا العمل على الشخصية ليس عملاً طارئاً وسهلاً. الشخصية التاريخية تفرض على الكاتب جهوداً كبيرة ومضنية. عليه أن يتحملها. الكثير من الكتاب اليوم ينسون هذا الجانب ويريدون إنهاء كتاباتهم التاريخية وغير التاريخية، بأسرع ما يمكن. النجاح في الشخصية الروائية هو نجاح في الرهان الذي ينطلق الكاتب منه، أي مسح كل الظلال التي تغطي أو غطت الشخصية زمناً طويلاً، يحررها الكاتب من عقال الحقيقة المفترضة، التي ليست بالضرورة هي الحقيقة، لكنها حقيقة من كتب تاريخها. الجهود التاريخية التي يبذلها الكاتب تجاه شخصيته مهمة وتفيد الرواية، في صالح مصداقيتها. كتابة الرواية هي بالضرورة رحلة طويلة وشاقة وليست عملاً سهلاً، لكنها أيضاً متعة، عندما يصبح العمل كياناً حياً، أو عندما يكون الكاتب في عمليات البحث والتقصي عن غائب أو تم تغييبه. بطبيعة الحال، الكاتب ليس مؤرخاً، لكنه شيء غير ذلك. كلاهما يستعمل مادة منجزة، لكنهما ينفصلان في النهاية. في الوقت الذي يظل المؤرخ مرتهناً للوقائع والأحداث، ينحرف الكاتب نحو نفس المساحة التاريخية الميتة والمنتهية التي أصبحت تاريخاً، يعيد لها الحياة وكأنها تحدث أمامنا في لحظة القراءة. الكاتب في النهاية روائي. هذا يجب ألا ينسى أبداً؟ على الرغم من أنه يبدو كمسلَّمة. ولتكن علاقته بالتاريخ كبيرة ومرجعية. لكن علاقته بالحياة أعمق دائماً حتى وهو في صلب وقائع وأحداث انتهت منذ زمن بعيد. يعمل مع مادة تتحرك أمامه حية ولها وضع جديد هو الوضع الروائي الذي يغير حتماً من مواصفاتها. رواية بلا تخييل هي رواية ميتة. السؤال الصغير والكبير في الآن نفسه: كيف يجعل الكاتب من شخصيته التاريخية/ الافتراضية حقيقة أدبية ملموسة. وكلمة أدبية تعني بالضرورة الاشتغال على الشخصية داخل الحقيقة التاريخية، أو المفترضة كذلك، وفي عمق الشعرية التي تنقل النص من التاريخ إلى التخييل. النجاح هو نتيجة جهد كبير، استطاع صاحبه أن يجمع بين التاريخ والواقع وينتج من ذلك مادته الثالثة أي الأدبية. ليس الأمر بسيطاً طبعاً إذ كثيراً ما انتهت بعض نصوص الشخصية التاريخية إلى المنع، أو إلى محاكمات وصعوبة، لكنها المسلك الأوحد لمنتج يتم تصنيفه في الأدب وليس في التاريخ.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store