Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أحمد عبدالرحمن العرفج

وضع اللوائح لضبط النصائح!

الحبر الأصفر

A A
بَين النَّاصِح والمَنصُوح عَلَاقَة غَريبَة، إذْ لَا يُحَاول أَحدُهمَا فَهْم الآخَر، فالنَّاصِح يَنظُر إلَى المَنصُوح كفَأرِ تَجارب، يَفعَل بِهِ مَا يَحلو لَه، والمَنصُوح يَنظُر للنَّاصِح؛ عَلَى أَنَّه إنسَان مُتطفّل، والصَّمت أَفضَل حَلٍّ للتَّعَامُل مَعه، حَتَّى يُنهي حَديثه، ويَمضِي فِي سَبيله، غَير مَأسُوفٍ عَليه.. فمِن كَثرة النَّصَائِح، العَاديَّة والرَّديئَة والمَجَّانيَّة، أَصبَحت الثَّمينَة مِنهَا والمُفيدَة؛ ضَائِعَة وَسط الزِّحَام، ومِن الصَّعب القَبض عَليهَا، ولِذَلك حَسمَ الفَيلسوف «بيرون» الأَمْر بطَريقتهِ المُحبِطة، فقَال: (نَادِراً مَا تُثمر النَّصيحَة الجيِّدة؛ نَتيجَة حَسنَة)..!

قَد يَطلُب الإنسَان النَّصيحَة؛ مِن أَهل الخِبرَة وأَهل المَعرفَة، وقَد يَسأَلهَا مِن الجُهّال وذِي الوَعي المَحدُود، ولَكنَّه -فِي الحَقيقَة- سيَكتَشف فِي آخِر المَطَاف؛ أَنَّه لَن يَستَجيب؛ إلَّا إلَى مَا تَرتَاح إليهِ نَفسه، عَلَى قَاعِدة الحَديث الشَّريف القَائِل: (استَفتِ قَلبك وإنْ أَفتَاك النَّاس).. وللاستزَادَة، دَعونَا نَستَعين بالفَيلسوف «شيشرون»، الذي ضَغطَ الفِكرَة دَاخِل كَبسُولَة صَغيرَة، فقَال: (مَا نَصَحَك مِثل نَفسك)..!

هُنَاك أُنَاس تُركِّز عَلَى هَويّة النَّاصِح، ومَن هو، ومَا هِي اتّجَاهَاته الفِكريَّة؟.. وكَأنَّه سيُزوِّجه مِن إحدَى أَخوَاته، فِي حِينَ أَنَّ النَّصيحَة قَد تَكون جَيِّدة، وإنْ لَم يَكُن صَاحبها بمستوَى جَودتهَا. لِذَلك يَقول الفَيلسوف «فولر»: (المُهم أَنْ تَكون النَّصيحَة جَيِّدَة، ولَيس المُهم مَن يَكون مُسْدِيهَا)..!

يُقال: إنَّ مَن احتَاج إلَى شَيء، أَكثَر مِن ذِكره، لِذَلك يَبدو أنَّ مَن يُسرِفُون فِي إعطَاء النَّصَائِح، هُم الذين يَحتَاجون إليهَا، ولَعلَّ هَذا المَعنَى العَميق؛ صَاغه الفَيلسوف «هالينكس» حِين قَال: (رَغبَةُ المَرء فِي إِسْدَاء النَّصيحَة، دَليلٌ عَلَى حَاجَته إليهَا)..!

أَكثَر مِن ذَلك، تَرَى الشَّخص المَشهور، أَو الذي يَمتَلك مَوقعاً مُؤثِّراً، يَستَمع إليهِ النَّاس أَكثَر مِن غَيره، ويَأخذُون كُلّ مَا يَقُوله؛ عَلَى مَحمَل الجدّ، حَتَّى لَو كَان بَعيداً عَن المَنطِق، وقَد انتَبه الفَيلسوف «هاريك» إلَى هَذه المُعَادلَة، فقَال: (يَكون المَرء أَكثَر حُرِّيَّة فِي إسدَاء النَّصَائِح، إذَا كَان ذَا شَأن)..!

وإذَا أَردتَ أَنْ يَستَمع إليكَ النَّاس، فكُن شَحيحاً وبَخيلاً ومُوجِزاً فِي إسدَاء النَّصَائِح، لأنَّ النَّصيحَة الذَّهبيَّة غَالية، أَمَّا النَّصيحَة المَجَّانيَّة؛ فهي رَخيصَة كالتُّرَاب، وقَد نَصحَكَ أَحَدُ الحُكمَاء فقَال: (اقتَصد -مَا استَطعتَ- فِي إِسْدَاء النَّصَائِح)..!

حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!

بَقي القَول: لَيتَ «النُّصحجيَّة» -فِي المُجتَمَع- يَعلمُون أَنَّ نَصَائحهم؛ لَا تَتجَاوز فَترة الاستمَاع إليهَا، لِذَلك -دَائِماً- تَرَى النَّاس الذين يَتلقّون النَّصيحَة، يُطأطِئُون رُؤوسهم، ومَا أَنْ يَنتَهي النَّاصِح مِن حَديثه، حَتَّى يَفرُّوا مِن حَولهِ، دُون أَنْ يَتذكَّروا كَلِمَةً وَاحِدَة مَمَّا قَاله، وقَد فَطِنَ إلَى هَذه المُفَارَقَة الفَيلسُوف «بلسنجتون» فقَال: (نَطلب النُّصح، ولَكنَّنا لَا نُجَاوز المُصَادقَة عَليهِ)..!!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store