Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

قسوة العالمية المفترضة؟

العزلة والاكتفاء بما أنجبته الممارسة الخاصة والمحلية لا تصنعان أدبًا عالميًا.. لهذا ارتبط مفهوم العالمية بالقسوة لأنها لا تقبل إلا بما يستجيب لهذه الإنسانية الأكثر اتساعًا.. ما عدا ذلك فهي تمحوه شيئًا فشيئًا حتى ينطفئ كليًا..

A A
أتحدث هنا عن قسوة لأن العالمية التي يهفو إليها الفنانون والكتاب ليست أمرًا هينًا.. بل ليست مجرد نزوة عابرة ولكنها رهان مشروع، وحلم يُراد تحقيقه بكل الوسائل، قد ينقلب بسرعة إلى حالة مرضية كحالة الحالمين بنوبل عربيًا. الكثير منهم، عندما نقرأ تعليقاته حول الموضوع نشعر وكأنه خارج من مصحة عقلية.. نوبل فجرت كل الأمراض المبطنة.. فهي بقدر أهميتها، ماكنة طاحنة، ترفع من تشاء وتمحق من تشاء أيضًا.. لا تستجيب إلا لرغبتها التي تنشطها عوامل كثيرًا ما تكون خارج فنية وأدبية.. العالمية بهذا المعنى لا تتحكم فيها دائماً جودة النص، في المجال الأدبي، ولكن قدرته على تخطي المعوقات الثقافية والخصوصيات الضيقة.. وعلى الرغم من انتشار الأدب العربي عالميًا، ولو بشكل جزئي لأن العرب لا يعرفون كيف يسوقون لثقافتهم، لم تبرز عالميًا إلا نصوص قليلة تشكل اليوم منارة في بحر الثقافة العالمية.. فالنص العالمي ليس هو النص المترجم فقط، الذي حقق شيئًا من الاتساع والمقروئية، لكنه النص الذي أصبح جزءًا من الوجدان الإنساني ومحا كليًا الانتماء الضيق إلى رقعة محددة أو مكان بعينه.. يقرأه الأمريكي أو الهولندي أو الإندونيسي أو الهندي أو الصيني أو المصري، أو السنغالي، فلا يشعر بغرابة فيه، بل بانتماء لا شعوري وكأنه يتحدث عنه.. عن انشغاله وأحاسيسه، ولن تصبح الأمكنة وقتها إلا مطية للتعبير عن التشوقات الإنسانية الأكثر اتساعًا.. يخطئ من يظن أن المحلية الضيقة، والهوية المحاصرة والمسيجة بأسلاك اليقين والتفاضل، تصنعان أدبًا عالميًا إذا لم تستطيعا اختراق الضيق والحصر بالعمل على ما هو أكثر انفتاحًا، وإنسانية داخل دائرة المحلية والخصوصية.

العزلة والاكتفاء بما أنجبته الممارسة الخاصة والمحلية لا تصنعان أدبًا عالميًا.. لهذا ارتبط مفهوم العالمية بالقسوة لأنها لا تقبل إلا بما يستجيب لهذه الإنسانية الأكثر اتساعًا.. ما عدا ذلك فهي تمحوه شيئًا فشيئًا حتى ينطفئ كليًا.. ماذا بقي اليوم من ثقافتنا التي نمنحها للإنسانية ونشترك بها في بناء صرحها؟ صحيح أن للأيديولوجية العالمية المتحكمة في صيرورة العالمية، دوراً كبيرًا، لكنْ لعدم التنبه لجدوى الثقافة عربيًا، دور أيضًا. نصوص عربية قليلة قاومت هذه الطاحونة عمومًا.. تتفرد أربعة أو خمسة منها في ثقافتنا العربية عن غيرها لأنها إلى اليوم ما تزال تشكل جزءًا مضيئًا من الذاكرة الجمعية الإنسانية: القرآن الكريم الذي اخترق كل الحدود الوضعية ليستقر داخل وخارج أرض نشأته، وفصل المقال لابن رشد الذي ساهم في النقاش الإنساني الدائر حول دور الأديان وموقعها في تسيير المدينة La Cité، فأربك اليقينيات المتسيدة، ونص ألف ليلة وليلة توغل في المخيال الإنساني، فأصبح في الكثير من الأحيان مرجعًا له، يكفي أن نلحظ أنه كان وراء ابداعات عالمية كثيرة.. فقد تأثر به مارسيل بروست، فيليب غوتييه، غابرييل غارسيا ماركيز، وغيرهم.. ورسالة الغفران للمعري لأنها تختبئ في أعماق أهم مرجع ثقافي أوروبي: الكوميديا الإلهية لدانتي آليغري الذي وضع الثقافة الغربية في أفق الحداثة.. وربما نجيب محفوظ بشكل أقل.. فوزه بنوبل لم يمنحه الاتساع الكبير الذي توفره جائزة نوبل عالميًا.

هذه أهم النصوص التي أنجزتها العبقرية العربية ودخلت في النسيج الثقافي العالمي وساهمت في تحويله في العمق، فتخطت الحدود وأصبحت جزءًا من الذاكرة الجمعية الحية.. الأسباب مختلفة: القرآن احتل هذه الذاكرة وانتقل عبر العالم لقداسته أولاً ولقوله الجديد وسط إنسانية غالبيتها من الفقراء والمحرومين كانوا في حاجة إلى نص ينصفهم ويرفع من شأنهم ويدافع عنهم. فعبَر نحو بلاد الهند والسند وآسيا وإفريقيا وجزيرة أيبيريا وجزءًا مهمًا من أوروبا، أما نص فصل المقال فقد منح أوروبا الغارقة في تقديس الحروب الدينية ومحاربة العقل وسيلة للفصل بين فعل العقل المتحرر والكنيسة المنغلقة على مقولاتها المتكررة. أما بالنسبة لألف ليلة وليلة فالعكس هو الذي حدث، فقد دخل بسلاسة كما تفعل النصوص الإنسانية العظيمة، فحرر الذاكرة الجمعية من ظلامها وذعرها ووضعها أمام حرياتها الجسدية واللغوية وأعاد لها ألق الشوق الإنساني. أما رسالة الغفران فقد كانت وراء نهضة شعرية أوروبية أعادت للشعر الإنساني والأوروبي تحديدًا ألقه وأخرجته من دائرة التكرار. حققت هذه النصوص العربية عالميتها من علاقتها المتشابكة مع الفعل الإنساني الذي سَدت أمامه نقصًا معرفيًا وإبداعيًا محسوسًا. من هنا يتبدى بوضوح أن العالمية في هذا السياق، ليست فعلاً سهلاً، بل طاحونة لا تبقي إلا ما يتجاوب مع معطياتها الأكثر اتساعًا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store