Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

ظِلال السماء الزرقاء.. في ذكرى الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل

A A
كل شيء بدأ بصدفة عجيبة عمرها اليوم أكثر من أربعين سنة.. عندما عبرت عتبة مكتبة البدر، في أهم شارع في مدينة وهران، صبّحت على مسيّرها، عمي العاصمي، وسألته عن الجديد.. قال بلا تردد: كنت أفكر فيك وأنا أقرأ كاتبًا اسمه اسماعيل فهد، أعجبني كثيرًا وأقنعني.. ثم أطلعني على كنوزه في عمق المكتبة.. لم أكن أعرف شيئًا عن إسماعيل فهد إسماعيل.. ورغم إمكاناتي المادية المتواضعة، فقد أخذتها كلها بلا تردد: البقعة الداكنة 1965، كانت السماء زرقاء 1970، المستنقعات الضوئية 1971، الحبل 1972، الضفاف الأخرى 1973، ملف الحادث 67، 1974، الأقفاص واللغة المشتركة 1974.. الروايات والمجموعات القصصية التي كانت قد صدرت وقتها.

لفتت انتباهي روايته الأولى «كانت السماء زرقاء»، بشكل خاص لا أدري لماذا؟ ربما لأن بدايتها كانت ممتعة، لغتها مدهشة.. من هذه الناحية كان إسماعيل مايسترو، للأسف تخلى عن هذه اللغة لاحقًا، وحتى عن طريقته الأولى في الكتابة، ربما لأنه شعر بصعوبتها على القارئ.. شيء ما في رواية «كانت السماء زرقاء» أخذ بمجامعي وأسرني كليًا.. تكونت لدي قناعة أني أخيرًا عثرت على كاتبي المفضل.. كل ما وصفه في «كانت السماء زرقاء»، في الرحلة القاسية عبر البراري الخالية والوديان، والمياه الراكدة، في لحظة الهروب، كان قويًا. قضيت الليلة كلها سهرانَ مع الرواية.. أعتقد حتى الخامسة فجرًا.. لم أنم إلا ساعة واحدة قبل أن أركض نحو باص الحي الجامعي، باتجاه الجامعة.. كانت عيناي متورمتين من قلة النوم، لكني كنت أشعر بلذة غير مسبوقة.. كيف حدث ذلك؟ ما السر؟ أول نص أقرأه لإسماعيل.. على الرغم من أن الرواية مبنية على إيقاع واحد، الجري في لحظة هروب، فلا ملل أبدًا.. تكاد تكون قصة قصيرة، مكثفة في أسلوبها وأحداثها، لكن الذي منحها اتساعًا أكبر هو كونها مبنية على رحلتين يخوضهما البطل مرغمًا بحثًا عن الحياة.. يشكل الهروب ثيمة حقيقية تنبني عليها سرعة اللغة وحركتها، وعدم ميلها للتفاصيل الشارحة التي تثقل النص عادة.. وفي الهروب، تصل المعاناة إلى سقفها لدرجة تنتابنا الرغبة في إيقاف الروائي عن تعذيب أبطاله وتعذيبنا معهم.. نركض مع شخصياته وكأن أي توقف كان سيجعلنا طُعمًا للكلاب المتربصة.. تظهر بوضوح، قدرة إسماعيل على اللعب بالفلاش باك.. نعيش باستمرار لحظة الهروب وقسوتها بالارتحال ليلاً، ونعيش في اللحظة نفسها داخل أعماق البطل الهارب من موت أكيد باتجاه مبهم افترض النجاة فيه.. هذه الخلفية الداخلية تضيء لنا المصائر السابقة والأحلام الممكنة لبطل الرواية.

وعلى الرغم من أني قرأت إسماعيل في كليته الروائية، فقد ظلت رواية «كانت السماء زرقاء» هي طريقي الدائم نحو إسماعيل.. جعلني سلطانها ألغي بحث تخرجي في الليسانس عن جورجي زيدان، وأعوضه بآليات السرد في رواية كانت السماء زرقاء.. لهذا قلت لإسماعيل أول ما التقيت به في الكويت، في منتداه الأسبوعي: حبيبي إسماعيل لك يد بيضاء في شهادة الليسانس التي تحصلت عليها بفضل بحث قمت به عن روايتك: كانت السماء زرقاء. فأجاب محنيًا رأسه: أخجلتني يا رجل.. واستمرت هذه الرواية زمناً طويلاً في ذاكرتي الروائية أيضًا.

عندما كتبت روايتي الأولى، في نهايات السبعينيات: البوابة (وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر) كانت رواية إسماعيل حاضرة فيها بعمق.. لم أدرك هذا إلا لاحقًا.. فقد اخترت تيمة الهروب.. هروب محكومين من السجن المركزي في المدينة.. من خلال لحظة الهرب التي استوعبت حوالي الأربعمائة صفحة، كانت علامات إسماعيل الأدبية حاضرة، ومعها فيلم اسمه الهروب، كنت قد رأيته وقتها.. لا يمكن للكاتب أن يتنصل من الأشياء الجميلة التي فيه.. نقضي العمر الكتابي كله في محو ما يشبه الكتاب الآخرين الذين شكلوا لنا ذاكرة كتابية، ولكن في الوقت نفسه ننشئ ما يشبهنا ويعبر عن جهدنا الخاص..

لهذا أقول دائمًا، ليس تواضعًا ولكن حقيقة، أدين لإسماعيل فهد إسماعيل إلى حد كبير، فيما أنا عليه اليوم روائيًا.. قلتها له في حياته، في لقاء عام في الكويت.. وأقولها اليوم وقد أصبح روحًا حية في أعماقي.. طوبى لتلك الروح السخية التي لم يأخذ الموت منها إلا الجسد الفاني، وأخفق في أن يسرق داخلها السخي: رواياته وظلال السماء الزرقاء.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store