Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

بعدما ينقشع الغبار

A A
انجلى غبار موقعة اسطنبول عن مشاهد، بعضها دامغ، وبعضها صادم، وبعضها مباغت، لكن أكثرها، وأعمقها، وأبلغها، كان عكس ما أشارت إليه البدايات، وألمحت إليه الوقائع اليومية، التي سعت كل من أنقرة وقطر إلى تكريسها كحقائق تبني عليها، ومسلمات تنطلق منها.

بيان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن جريمة مقتل الزميل الصحافي جمال خاشقجي -يرحمه الله- في اسطنبول، أسدل ستاراً ثقيلاً على حملة تركية قطرية سعت بإلحاح على مدى أكثر من ستة أسابيع، إلى محاولة توصيف الحادث باعتباره جريمة دولة، وليست جريمة أفراد حددهم بيان المدعي العام السعودي بالاسم، ووصف أدوارهم في الجريمة، ووجه إليهم اتهامات بعينها، سوف يمثلون أمام القضاء السعودي الذي سيبتُّ في مطالبة النيابة العامة السعودية بتوقيع عقوبة الإعدام بحق خمسة من بينهم.

لا يعنيني الشق الجنائي في القضية، فهو الآن بين يدي رجال العدالة السعوديين، إلا بمقدار صلته بشقين هما الأكثر أهمية طوال الوقت، بل إنهما ربما كانا مناط الأزمة ودوافع السلوك فيها.

الشق الأول: استراتيجي، يتعلق بصراع دولي واسع له مرتكزاته ودوافعه الإقليمية.

الشق الثاني: سياسي، يتعلق بإدارة وملاحقة الهدف الاستراتيجي للصراع الدولي ومرتكزاته الإقليمية.

لا يمكن، ولا يجوز، النظر إلى الصخب السياسي الذي صاحب واقعة جنائية، باعتباره يأتي في سياق محاصرة جناة أفراد، ارتكبوا واقعة جنائية بحق فرد، فالصخب السياسي والإعلامي الذي صاحب جريمة أفراد بحق فرد، كان أعلى بكثير، من أي صخب صاحب جريمة مماثلة أو أشد، بما في ذلك محاولة قتل الجاسوس الروسي المنشق سكريبال وابنته يوليا في لندن. كان الصخب المصاحب لحادثة خاشقجي عبر قناة الجزيرة القطرية، وبتناغم تام مع بيانات أنقرة، التي كانت تكشف عن إحدى أوراقها كلما انجلى دخان الورقة السابقة، في تكتيك يستهدف استدامة التأثير، والإبقاء على الواقعة في دائرة ضوء مصطنعة، بهدف تحقيق أثر سياسي، له ما بعده في استراتيجيات أنقرة والدوحة.

صخب الجزيرة، وأوراق أنقرة المحروقة، كانت تستهدف بالأساس اصطياد السعودية، وتفخيخ الطموح السعودي لدور إقليمي مستحق، لم ترد عليه السعودية بصخبٍ مماثل، وإنما استدعت لمعالجته، رصيداً هائلاً من الخبرة السعودية الخالصة في التعامل مع أزمات دولية وإقليمية كبرى بحق، استطاعت السعودية أن تجتازها، بما تراكم لديها من خبرات، وما أرسته من قواعد لتحالفات وعلاقات برهنت على قوتها ونجاعة تأثيرها في الخطوب. طوال الأزمة التي صاحبت قضية خاشقجي، بدا أن القضية الحقيقية من وجهة النظر التركية لم تكن حادثة قتل، وإنما مشروع عثماني، لا يكتفي لاستعادة إطاره بامتلاك أدوات القوة والتأثير، وإنما يتطلع إلى إجهاض مشاريع قوة عربية منافسة، تتصدرها السعودية وتدعمها.

طوال الوقت منذ سقوط ما يُسمَّى بالربيع العربي بعد الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، كانت أنقرة تتطلع إلى جوارها العربي باعتباره ساحة تتمدد فوقها طموحاتها العثمانية الجديدة، وطوال الوقت أيضاً، كان الوعي السعودي الإماراتي المصري بطبيعة المشروع العثماني الجديد، داعماً لتحالف عربي يأبى أن تعود المنطقة إلى عصور ظلام وتبعية عثمانية، يتطلع الأتراك بإلحاح إلى استعادتها.

إعلان قيام المملكة العربية السعودية قبل أقل من تسعين عاماً كان أبرز محطات ما بعد سقوط الدولة العثمانية، أما إعلان التحالف الاستراتيجي بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية عقب اللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز والرئيس الأمريكي روزفلت فوق الطارد كوينزي في مياه البحيرات المُرَّة بقناة السويس قبل ثلاثة وسبعين عاماً، فهو أبرز الحقائق المستقرة منذ ذلك التاريخ.

بيان ترامب الذي أكد أن التحالف الأمريكي السعودي أقوى من أية ضغوط أو مشكلات، وأن الولايات المتحدة لن تعرض هذا التحالف لأية هزات، ولن تسمح بتقويض صرح الصداقة والتحالف السعودي الأمريكي، برهن على أن رهانات السعودية ما تزال صائبة، وأن رهانات خصومها ما تزال خائبة مهما استدعوا من عوامل التأثير.

على مستوى المعالجة اليومية للحدث، بدا للبعض أن الأتراك يحرزون بعض المكاسب، وأن القطريين عبر قناة الجزيرة يسجلون بعض النقاط، أما على المستويين الاستراتيجي والسياسي، فقد ربحت السعودية، بعدما برهن صمود تحالفها التاريخي مع الولايات المتحدة على سلامة رهاناتها ورسوخ أدواتها في التأثير والتغيير.

رغم ما صاحب مقتل خاشقجي من ضغوط وتحديات، فإن أي قراءة للمشهد الإقليمي الآن، بعد البيان الأمريكي، سوف تفضي إلى ما يلي:

- الحصار الأمريكي على إيران يشتد.

- جهود إحباط المشروع العثماني تستمر.

- هزيمة المشروع الإيراني ولجم الطموح التركي يُقوِّضان مخططات قطر ويعيدانها إلى الحظيرة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store