Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

كبار في الظلّ.. الباحث العالمي عبدالقادر جغلول

A A
إذا استثنينا يومياتنا القاسية، نجد أن الجزائر قارة من النور، والتفاصيل الجميلة، بعضه نراه ونستمتع بوجوده، وبعضه الآخر يهرب حتى قبل أن نرفع رؤوسنا لرؤيته ولمسه بأعيننا، كالنجم الهارب يمضي مخلفًا وراءه خيطًا رقيقًا، كلما اقتربنا منه اكتشفنا كم كنا مخطئين لأننا لم نلمسه عندما كان صاحبه حيًا.

خسرت الجزائر والإنسانية، واحدًا من أهم الشخصيات الثقافية الوطنية التي لا نعرف عنها الشيء الكثير لأنها بتواضعها وعملها الدؤوب ظلت دائمًا في الخلفية. ربما كان هذا التخفي من أهم صفات الرجال العظام الذين يندفنون في أعماق عملهم، لكي يظهروا ما هو أهم.

عبدالقادر جغلول منح الجزائر ما يمكن أن يمنحه مثقف صادق لوطنه بدون أن يطلب مقابلاً لجهده، وبدون أن يصرخ على الأسطح بأنه مظلوم لأن وقته، وقت الكتابة والتأمل والتحليل كان قليلاً وكان عليه أن يستغله إلى أقصى ما يمكن. كلما زرته في مكتبه، وجدته غارقًا بين أوراقه، وفي فوضاه الجميلة، يقوم من مكانه بضحكته المعتادة وصوته الإذاعي الرخيم: «أغبطكم أنكم اخترتم رهان الكتابة». لم يمنعه ذلك من أن يكون مواطنًا يساهم ثقافيًا من موقعه، من أن يفكر في المآلات الثقافية للجزائر.. كان ذلك هو شغله الشاغل.. كيف نجعل من الثقافة الوطنية حصاننا للدفاع عن جزء من وجودنا، في عالم معولم لا يمنحنا فرصًا كبيرة للوجود.. عرفته من أيام وهران، قبل أن يذهب إلى باريس ويقيم هناك ويعود ثانية إلى الجزائر، لم يتغير كثيرًا، فقد كان شعلة من النشاط والعمل وحركية لم توقفها إلا دوامة الموت القاسية..

جهوده الجامعية، وأبحاثه الثقافية والسوسيولوجية، والأنثروبولوجية الثقافية، منحته فرصًا كبيرة لتعمق الظاهرة الثقافية الجزائرية.. ظل شغوفًا بتوصيل القضايا الثقافية الجزائرية ووضعها في مساراتها الصحيحة. فقد أدخل شيئًا من روحه الثقافية على كل ما كان يحيط به.. لا يتلفن للأصدقاء إلا ليسمع صوت الثقافة، وليطلب منهم مزيدًا من الجهد لإخراج البلاد من دائرة قسوة الجهل.. الكثير من أعماله الكبيرة تبين استماتته من أجل الصالح العام الذي تنتفي فيه الحسابات الشخصية. حتى عندما مرض، وكان يدرك أن مرضه كان خطيرًا، ظل هو هو، رجلاً طيبًا ومثقفًا لا يفقد تأملاته في الوضع الجزائري بحدته النقدية المعروفة.

عندما التقيت به في باريس في زيارة طبية، كانت ملامحه متعبة، وكنت أعرف أن الضر كان قد توغل عميقًا، قال: لن أثقل على ميزانية البلاد كثيرًا.. زيارتي لمعرفة وضعي الصحي جيدًا وأعود بعدها إلى البلاد. فوجئت عندما قال لي بأنه سيعود إلى الجزائر لمواصلة العمليات الاستشفائية بالجزائر، وأنه ليس في حاجة إلى البقاء في باريس لأن وضعه الصحي لا يستلزم ذلك.

على الرغم من ذلك، فقد أنجز الكثير من الأبحاث في التاريخ الثقافي الجزائري التي ترجم بعضها إلى اللغة العربية في بيروت، وكلها روافد تحليلية ونقدية، تسمح للمهتم بالشأن الثقافي أن يعرف جذور التحولات الفكرية للنخب. حتى عندما مر على المركز الثقافي الجزائري بباريس في الثمانينيات، ظل في عمق الانشغال الثقافي والفكري، فأنشأ مساحات ثقافية سدت نقصًا كبيرًا في أرض الغربة، وفتحت منابر للنقاش خصوصًا المجلة التي أنشأها هناك بمساعدة ودادية الجزائريين بأوروبا، التي قدمت الثقافة الوطنية في أبهى صورها.

كان حلم عبدالقادر جغلول أن ينتج سلسلة أدبية وطنية أنيقة مثل البلياد Pleiade الفرنسية يلتقي فيها في المرحلة الأولى مئة كاتب جزائري، يكتبون بالفرنسية أو العربية، من الذين صنعوا ذاكرة هذه الأمة. وقد فكرنا في المشروع طويلاً حتى أصبحت الفكرة على حافة الإنجاز، لكن الموت كان سباقًا. لقد تحرك جغلول دائمًا كمثقف حتى داخل دائرة السياسي ولم يسلم أبدًا في مساحاته الفكرية الحرة.. كنت ربما سأقول له كل هذا الكلام لو بقي حيًا، ولكني كنت أعرف أيضًا إجاباته الخجولة: لم أقم بأكثر من واجبي.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store