Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

صحون الصحافة فارغة.. والطبيخ من المريخ

A A
أعشق كل ما هو طازج.. من رغيف الخبز الساخن، وحتى الصحيفة الخارجة لتوّها من المطبعة برائحة الحبر الطازجة وقد بللها ندى الصباح الطازج. كانت أُمِّي تعرف أسرار عشقي للصحيفة الطازجة، فتضعها فوق وجهي محمَّلة بنسائم الصباح الباكر كلما استعصى عليها إيقاظي. رائحة الحبر المُبلَّل بالندى، هي أجمل ما استيقظتُ عليه طوال حياتي، يحدوني شغف غريب لمعرفة ما استجد خلال ساعات نومي بين آخر الليل وأول النهار، اختفى الورق أو يكاد أمام زحف صفحات إلكترونية، واختفى الحبر أو يكاد تحت وطأة أحبار إلكترونية نُلوّنها بأحب الألوان إلى نفوسنا، و بأكثرها ملاءمة لحال عيوننا، لكن شغفنا بقراءة الصحف لم يختفِ ولم يتراجع.

قلتُ قبل نحو عشرين عامًا، في حفل تسليم وتسلُّم لمهام المسؤولية بالصحيفة التي كنت أعمل بها، أن علينا استيعاب ما تفرضه ثورة تقنيات الاتصال من تحديات، وما تُتيحه لنا بنفس الوقت من فرص. وطرحتُ نموذجًا ألمح إليه وقتها «توماس فريدمان» في كتابه: (السيارة لكزس وشجرة الزيتون)، مشيرًا إلى ما فعلته شركة سويس اير (الخطوط الجوية السويسرية) التي نقلت الإدارة المالية إلى بومباي، مستفيدة من تدني أجور المحاسبين في الهند، وقدرة التكنولوجيا آنذاك على ربطهم بشبكة سويس اير في سويسرا على مدار الدقيقة. كان ما عُرف وقتها بصناعة (التعهيد) قد أفسح مجالًا أمام الشركات الكبرى في قطاع الاتصالات والنقل بصفةٍ خاصة، لكي تنجز مهامها على نطاق أوسع بتكلفة أقل، وبدا -لاحقًا- أن ما قلته، قد انعكس على السياسات والقرارات بدرجةٍ ما، لكن إيقاع الاستجابة للتغيير بدا أبطأ من إيقاع التغيير ذاته، وهذا طبيعي ومفهوم، إذ أن ما كان مطلوبًا إزاحته، هو ركام عقود طويلة بدأت مع أول مطبعة عرفتها الجريدة، واستمرت حتى آخر أحدث مطبعة سرعان ما باتت عبئًا على صحف أنفقت عشرات الملايين من أجل شرائها، ولعلها تُفتِّش الآن عن مشترِ لها فلا تجد.

الورق بالنسبة للصحيفة هو مجرد وعاء؛ تجري تعبئته بأخبار ووقائع وتحليلات ودراسات وقصص وحوادث، هذا الوعاء الورقي هو مَن يشكو البطالة الآن، وهو مَن يخشى شبح التقاعد الزاحف بإلحاح على زمن الصحافة الورقية. وعلى عاملين بها حاولوا قدر جهدهم مقاومة التغيير أو التناغم معه، لكن إيقاع التغيير ظل أسرع بكثير من قدرة العاملين بالصحافة على ملاحقته.

تَغيَّر الوعاء الورقي، وانخرطت صحف كثيرة في محاولات لتطوير أوعية إلكترونية، والبحث عن قُرَّاء جُدد، لا يتأثرون برائحة الحبر الطازج، ولا بورق الصحيفة، وقد بللته قطرات الندى، لكن محاولات الصحافة ما تزال قاصرة عن إدراك متطلبات الاستمرار على قيد الحياة. أغلب الظن في تقديري، هو أن الانشغال بتغيير الوعاء (ورقي أو إلكتروني) قد طغى على انشغال واجب بتغيير المحتوى، بعدما تغيَّر القارئ وتغيَّرت عادات القراءة.

لم تعد الصحيفة تغطي أخبار الأمس التي لا يعرفها قراؤها ولا يسمعون بها إلا في صباح اليوم التالي، بل أصبحت تلاحق الأخبار والصور والأحداث على مدار الثانية، وأصبح قراؤها قادرين على الدخول إلى غرفة أخبارها (أون لاين) لمتابعة وقائع حدث أثناء حدوثه، بل إن كاميرات الشوارع -التي استباحت فضاءات الناس على مدار الساعة- باتت مصدرًا لوقائع حية يُشاهدها مَن يستهويهم فضول المشاهدة والمشاركة. الصحافة التي تريد أن تعيش في زمن إعدام الورق وإلغاء المسافة والزمن، ينبغي أن تستوعب جملة حقائق، أوّلها أن الوعاء ما عاد ورقيًا، وأن زمن القراءة ما عاد صباحيًا، وأن لغة الكتابة ما عادت مجرَّد مفردات أو صور، فهناك ما هو سمعي وما هو بصري وما هو حي صاخب، تستطيع معه أن تنصت إلى صوت تدفُّق الدماء في شرايين الحدث.

القارئ لم يعد مجرد قارئ، والصحافي لم يعد مجرد كاتب، والصحيفة لم تعد مجرد رزمة أوراق تتنافس على ميزان الورق بأكثر مما تتنافس في محتواه. الصحافة التي تقاتل الآن من أجل مجرد البقاء، تحتاج قبل أي شيء آخر إلى تطوير المحتوى، وإلى التخلُّص من أوهام أن قراءها لا يعرفون إلا بمقدار ما تريد لهم أن يعرفوا، وإلى إدراك أن عصر ملاحقة الخبر لن يستمر إلا بمقدار قدرته على ملاحقة سرعة المركبة الفضائية الأمريكية «إنسايت»، التي هبطت بسلام قبل يومين فوق سطح المريخ. تحتاج الصحف لتنهض من كبوتها إلى التفكير خارج الكوكب، لا خارج الصندوق، وأكثرها قابلية للبقاء سيكون ذلك الذي يُقرِّر إيفاد أول مراسل له فوق سطح الكوكب الأحمر.

الصحافة تجتاز محنة وجودية، لن يتبقَّى منها بعدها سوى مَن يستوعب العصر، ومَن يفهم مبكرًا أن المحتوى الطازج قادر دومًا على إلحاق الهزيمة بأي وعاء؛ مهما بدا فخمًا وضخمًا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store