Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

اقرؤوا رسائل المتقاعدين

A A
التقاعد مرحلة فاصلة بين حياة العمل الروتيني المقيَّد بزمان ومكان، وبين حياة الانطلاق والحرية، وممارسة بعض الهوايات والأعمال اليسيرة التي تسهم في شغل أوقات الفراغ لدى المتقاعدِين. ومع أن التقاعد أمر حتمي لا مفر منه إلا أن ساعة التنحِّي تظل ساعةً مرعبةً لدى البعض؛ حين ينظر إليها على أنها ساعةُ بَدْءِ الانحدار من القمة، وفَقْد المكانة الاجتماعية، وتفرُّق الحاشية، وتلاشي الأضواء، ولذا ترى البعض يعض على الوظيفة بالنواجذ، ويظل مستمسكًا بها حتى آخر يوم في مسيرته العَمَلية، وربما طالب بالتمديد له. ولعل الحكايات والقصص والمقاطع والصور والرسومات الكاريكاتورية التي تُتداول اليوم بكثرة عن المتقاعدين، وتحمل كلها مضمون (السخرية) منهم، ومن هيئاتهم وتصرفاتهم واهتماماتهم وملامحهم الخارجية التي تغيرت بعد تقاعدهم، وتُظهِرهم على أنهم أناسٌ لا هدف لهم، فاقدون للكثير من وعيهم وتوازنهم ومثالياتهم التي كانوا يتحلون بها وهم على رأس العمل، كل ذلك ربما كان سببًا في تهيُّب البعض من التقاعد والنظر إليه على أنه مصيبة تتربص بهم حال تقاعدهم. لكن ينبغي ألا نغفل عن أن معظم هذه الحكايات والمقاطع والصور والرسومات كان لبعض المتقاعدين دور في حبكتها؛ ذلك أنهم حينما تقاعدوا ظنوا أن أرزاقهم توقفت، وأن مصادر دخلهم تعطلت، وأن حياة الرخاء أدبرت، وأن حياة البؤس أقبلت، مع أنهم -وأخص هنا فئة المعلمِين- حصَّلوا (جميعُهم) خيرًا كثيرًا وهم في وظائفهم، ووفر أكثرهم مصادر دخل إضافية في سنواتهم الخوالي، ومع أنهم يتقاضون مرتبات تقاعدية جيدة جدًّا وربما مرتفعة، إلا أن حالة الهلع والخوف من القادم أطبقت على أفئدة بعضهم وأفهامهم، فترى هؤلاء البعض -بعد تقاعدهم- يمارسون أعمالاً شاقة ويكدحون في ميادين كثيرة حتى تبدلت ألوانهم ونحلت أجسادهم وبدت على وجوههم آثار المسغبة والشقاء، حتى إنك لو صادفت بعضهم لربما أنكرته، بل لم تعد تربطهم بالعلم وعوالمه (انتماءً، قراءةً، اطلاعًا، مدارسةً، نقاشًا، مشاركةً..) أي رابطة، فهؤلاء يرسلون (رسائل سلبية) عن التقاعد، وهنا لا لوم على من كان مرتَّبه التقاعدي بسيطًا أو من كانت عليه التزامات مالية ضخمة فربما كان كدُّه وتعبه -بعد تقاعده- مبرَّرًا. وبعضهم لم يمارس -بعد تقاعده- أي مهنة شاقة واكتفى بمرتبه التقاعدي وبما أسسه من مصادر دخل في سنواته الخوالي، لكنه جعل من التقاعد فراغًا ممتدًا غير مقنن، فتراه تخلى عن مسؤولياته الأسرية والاجتماعية كلها، وأصبح لا يعرف للوقت قيمة، ولم يعد له بالعلم وعوالمه (انتماءً، قراءةً، اطلاعًا، مدارسةً، نقاشًا، مشاركةً..) أي صلة، يقضي معظم أوقاته في الاستراحات والمقاهي وفي التنقلات وتتبع المناسبات، يصحو في بلد وينام في آخر، بحجة أن (الفراغ ذَبَحه) ولذا يعمد لتضييع أوقاته بهذه الكيفية، دون إدراك لقيمة الزمن وتقضِّي العمر، ودون أدنى اهتمام بواجباته الأساسية تجاه أسرته ومجتمعه ولو في أدنى مستوياتها، فهذا وأمثاله يرسلون أيضًا (رسائل سلبية) عن التقاعد. وتأتي فئة ثالثة أكسبت التقاعد صورة زاهية بممارسات ما بعد التقاعد حينما احتفظت بما عُهد عنها من مثالية وتوازن في المظهر والمخبر وفي أمور حياتها كلها، فلا هي بالمندفعة خلف الدنيا حتى تغيرت شكلاً ومضمونًا، ولا هي بالتي تعيش حياتها سبهللاً حتى تصبح عنصرًا خاملاً ورقمًا زائدًا في هامش الحياة، وفوق هذا وذاك بقيت متواجدة في أجواء العلم (انتماءً، قراءةً، اطلاعًا، مدارسةً، نقاشًا، مشاركةً..) محتفظة بصبغة العلم والتعليم حتى وهي خارج الميدان التعليمي، وربما مارست بعض الأعمال اليسيرة المناسبة لعمرها سواء كانت ذات نفع ذاتي أو متعدٍّ، نافعة لمجتمعها، مستثمرة لأوقاتها، مرفِّهةً -بقَدْر- عن أنفسها، موازنة بين مطالب دنياها وآخرتها، حتى إن مَن حولها لم يشعروا بتحول طال مسيرتها يستدعي شفقتهم عليها، أو سخريتهم منها، فهذه -وحدها- ترسل (رسائل إيجابية) عن التقاعد.. وبعد: فتلك رسائلهم وأنتم بالخيار.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store