Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
م.سعيد الفرحة الغامدي

الدرس من باريس قاس..!

A A
كل الدول تراقب الذي يحصل في فرنسا باهتمام مدهش لأنه حدث استثنائي في بلد استثنائي. ومصدر الاهتمام والدهشة أنه في باريس بشعار لافت «باريس تحترق» بأيدي سكان اختاروا السترة الصفراء شعارًا يميزهم في زحمة الفوضى العارمة التي يقودونها. أرهقوا رجال الأمن واستهدفوا أهم المواقع (مثل برج إيفل وقوس النصر) برمزيتها للمجتمع الفرنسي وشهرتها العالمية على مر السنين في أذهان زوار باريس الواجهة السياحية المفضلة في كل الفصول.. تبهر السيَّاح بجمالها وتشدهم إلى التاريخ وجاذبية الحداثة والتنوير الذي توصف به. والسؤال الكبير لماذا هذه الانتفاضة وفي هذا الوقت بالذات؟.. قد يظن البعض أن هناك إجابات متعددة ولكن الواقع أن الإجابة المباشرة هي التضييق على لقمة العيش من قبل الرأسمالية القاسية التي ضيّقت على الطبقة العمالية من ندرة التوظيف إلى قلة الأجور وغلاء المعيشة وارتفاع الضرائب وأسعار المواد الضرورية. وعندما يكون ذلك في بلد كل فئات المجتمع فيه تنتمي لتنظيمات عمالية لها برامج وفق معايير اكتسبها المجتمع المدني عبر التاريخ وأصبحت تشكل حصانات مكتسبة وإذا لم تستجب لها الحكومات فمن حق الجمهور النزول للشارع والتعبير عن رفضه والمطالبة بإصلاحات تغير الواقع وتراعي متطلبات المحتجين.
الحكومة الفرنسية تباطأت في اتخاذ قرار التراجع عن بعض الزيادات في الأسعار المصحوبة برفع الضرائب وبعد أن التهب الشارع وعبَّر عن سخطه بعنف شديد طال الممتلكات والأماكن الأثرية في شارع الشانزليزيه وغيره من الأحياء الشهيرة في باريس استجابت الحكومة لبعض مطالب المحتجين. طبعًا العبث والفوضى المنفلتة من الأمور المرفوضة ولكن حركة الغضب عندما يتحرك الجمهور ويكون بين صفوفهم محرضون قد يكون لهم أجنداتهم مثل اليمين المتطرف الذي خسر الانتخابات وحُرم من السلطة وأتت فرصته للانتقام وإحراج الحكومة والضغط لمزيد من التنازلات. العالم يراقب وأوروبا على وجه الخصوص متخوفة من انتقال التحركات الاحتجاجية لمدن أخرى في دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني من نفس المعضلات الاقتصادية التي تواجهها فرنسا. كابوس اليمين المتطرف العنصري لم يفارق أوروبا من بداية القرن العشرين ولم تستطع الدول الأوربية القضاء على العنصرية برغم تطورها الاقتصادي والسياسي وبرامجها التنموية لأن الرأسمالية ترتكز في الأساس على الطبقية الاجتماعية والربح المفرط والغنى الفاحش. وبرغم أن بعض القوانين ملونة بالمبادئ الاشتراكية وحقوق الإنسان وضمان الحرية والعيش الكريم إلا أن التفاوت بين طبقات المجتمع ظل سائدًا بمظاهره البارزة في حياة أفراد المجتمع، يتعاظم مع مرور الزمن ومن تُتاح له زيارة باريس ويأخذ جولة في الأحياء البعيدة عن المركز سيرى التخلف وعدم المساواة في حياة الناس. التمييز في الحصول على الوظائف يعاني منه أبناء الجاليات المتجنسة كثيرًا برغم أن الأنظمة في ظاهرها تضمن لهم حق المساواة ولكن التطبيق شيء آخر، ولهذا تجد أي فرصة تُتاح للاحتجاج تأخذ طابع العنف والقسوة من جانب السلطات الأمنية. إن ما يحصل في باريس ظاهرة بالإمكان تكرارها في كل الدول التي لا تراعي المساواة في توزيع الثروة وضبط الأسعار والعناية بالطبقات ذات الدخل المحدود من المجتمع. فإذا كان ما شاهده العالم خلال أسابيع مضت - يحصل في باريس - من خربشة لجمالها فإن هناك أماكن كثيرة في العالم تعاني من الإرث الاستعماري مرشحة لأفعال مماثلة ومن بينها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية برغم الثراء الفاحش والقدرة على الإنفاق السخي إلا إن سياسة الإقصاء وغياب العدالة الاجتماعية يولد الكره والبغضاء وفي النهاية كل قسوة على المجتمع في أي دولة تخلف العنف والفوضى..! ومازالت فصول الدرس القاسي من أحداث باريس مستمرة.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store