Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

الرهانات الثقافية العربية مغاربيًا؟

A A
في زمن المخاطر المحدقة كم تحتاج البلدان المغاربية إلى تقارب ثقافي حقيقي أكثر من أي زمن مضى؟ كم تحتاج إلى إيجاد صيغ تفاهمية مهما كانت الاختلافات والتبدلات، ولن يكون ذلك إلا بالوسيط الثقافي. هناك خصوصية ثقافية مغاربية تجب العودة لها وقراءتها بتبصر وتأمل.. البلدان المغاربية تملك القدرات الثقافية التي تؤهلها لتكون أكثر فعالية مغاربيًا وعربيًا ومتوسطيًا وعالميًا أيضًا.. تملك الطاقة البشرية والمعرفية العالية التي تؤهلها لذلك.. فقد وصلت الثقافة المغاربية إلى درجة عليا من التنور واكتساب المعارف والفكر، وضعتها في مستوى يحقق لها بعض الاستقلالية.. فالمغرب ليس بلد زراعة، وسياحة، وفوسفات فقط، وليست تونس بلد القطن والتمور وزيت الزيتون، والسياحة فقط، وليست الجزائر بلد النفط والغاز واليورانيوم والتمور العالمية «دفلة نور»، والمواقع الآثارية الرومانية، فقط.. وليست موريتانيا بلاد السمك والفلاحة وليست ليبيا أرض نفط وغاز وتمايز مناطقي فلاحيًا.. هناك غنى أهم وأبقى، تلك الطاقة البشرية الخلاقة ثقافيًا والتي يمكنها أن تؤسس لنموذجية مغاربية بإمكانها أن تزحزح قليلاً هذا الجبل من اليأس العربي.. نسيج مشترك بناه جيل حقيقي كانت رؤاه واسعة، خارج الوطنيات الضيقة، ودفع الثمن غالياً.. لا يمكن اليوم ترك هذا الميراث الكبير بين أيدٍ صغيرة وعاجزه، لتدميره بحثًا عن مصالح تحجمه، وتضيق عليه.

لا حل مغاربيًا إلا بالانتماء إلى الثقافة المستنيرة والعودة إلى كل العناصر المجمعة لهذا الكيان الذي ابتعد في جزئه الأكبر عن لحمته الأولى، مكونه الأمازيغي، وابتعد أيضًا عن العروبة التي صنعت جزءًا من حضارته، كفعل ثقافي وليس عنصريًا إقصائيًا.. العربية كانت دائمًا عنصر وحدة وليس تفرقة.. تم محو العناصر الثقافية الإفريقية التي تشكل الامتداد الجنوبي للجزائر ولموريتانيا وليبيا والمغرب.. هناك ثقافة قائمة بذاتها لها انتماءات متعددة.. كيف يمكن الجمع بينها في سياق أوسع وأفيد؟ البعد المتوسطي الذي يشمل أغلب البلدان المغاربية الذي كان وراء ثقافات تقاطعت بقوة تاركة في جسدها آثارًا تحتاج إلى إعادة قراءة لسلام يصنعه الجميع في عدالة دولية تحتاج إلى تكتل مغاربي ودولي حقيقي للتمكن من فرصها.

لهذا فالصرح المتبقي لتجميع الأشلاء المغاربية الممزقة هي الثقافة، ولا بديل لذلك، في ظل العجز السياسي وقصور في الرؤية والتحرك الفردي المعزول.. لا يوجد حل آخر إلا بتطوير الفعل الثقافي الحي.. خارج هذا الخيار، سيتحول المثقفون المغاربيون أنفسهم إلى طبول تزمر للسياسي والآني في بلدانها، وخارج الرهانات العظمى والمسؤوليات الكبرى التي تنتظرها.. غنى المثقف المغاربي وانفتاحه الطبيعي على الثقافات العالمية، وجهوده المعرفية وإسهاماته في الثقافة العربية والإنسانية، يفترض أن تمنعه من التحول إلى طابور خامس يصطف وراء السياسي الضيق الذي كثيرًا ما يسقط في حسابات البقالين المغلقة.. الثقافي رهان استراتيجي، بينما السياسي خاضع لتوترات الوقت ومناوراته، المصالح تتحرك وفق المعطيات الدولية، وبالتالي فاستقرارها غير مضمون.

للأسف، المشهد الصراعي المغاربي اليوم لا يبشر بخير.. وقد تقاد، وفق إملاءات دولية أو حسابات مصالحية ضيقة، نحو حروب مدمرة.. وتفتح الأبواب باتجاه استعمارات جديدة.. كل البلدان المغاربية اليوم مريضة بأوضاعها.. نعم، الجزائر ليست على ما يرام.. عانت الأمرين في سياق البحث عن مسالك ديمقراطية وفاء للرعيل المغاربي الأول.. دفعت ثمن التحرير، وتدفع ثمن الديمقراطية المؤجلة والخواء السياسي. خرج الشعب التونسي من صمته وقاد أول ثورة عربية حديثة، ويعطي اليوم درسًا عربيًا وعالميًا في تعميق المجتمع المدني، على الرغم من الآفاق التي لا تطمئن بخير.. فالوضع الاقتصادي يهدد كل ما حقق من مكاسب.. خرج المغرب من سنوات الجمر والرصاص في السبعينيات بشجاعة، لكن المشكلات الاقتصادية والثقافية تعطل قفزته الممكنة.. ليبيا غارقة في تآكل داخلي غير مسبوق بلا مؤسسات ولا حتى دولة صورية.. موريتانيا تجتهد للخروج من دائرة الجمود السياسي ومن ثقل المعضلات الاقتصادية.

كل هذه الرهانات المغاربية يمكنها إن وحدت الخيارات الكبرى، أن تخلق نخبًا جديدة غير تلك التي خرجت من جمر التاريخ المشترك.. وأعتقد أن غالبية المثقفين المغاربيين، فرانكفونيين كانوا، أو معرَّبين، يذهبون بهذا الاتجاه الإيجابي، أي التعامل مع الحالة المغاربية بالمنطق الثقافي الأكثر اتساعًا وفكرًا، وليس بالمنطق السياسي الجاهز والضيق، كما تفعل المؤسسات الرسمية ببنياتها المتهالكة أو الأجهزة السياسية في ظل الحسابات السياسوية الخطيرة التي تتحكم فيها قوى جهوية، ودولية لا تحب الخير دائمًا للعرب.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store