Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

الوقائع تهزم التوقعات

A A
واظبتُ لسنواتٍ طويلة على المشاركة في تشييع أعوام تطوي أوراقها، أو في حفلات تدشين أعوام جديدة تفتح سجلاتها، وتشرع أبوابها، أمام مشاهد جديدة يجري الإعداد لها، بترتيب محكم أحياناً، وبعشوائية ملحوظة غالبًا.

كنتُ أحرص ضمن تقاليد هذه المواظبة الدؤوبة، على إطلاق اسم لعامٍ رحل، وآخر لعامٍ حضر، وكنت أنتخب مع زملائي وقرائي أهم أحداث كل عام، وأبرز الصور والشخصيات.

كان الأمر أسهل بكثير طوال سنوات ما يُسمَّى بحقبة الاستقرار في العلاقات الدولية، لم يكن السلام يشمل العالم طوال نصف قرن من الحرب الباردة، لكن قواعد الاشتباك كانت مستقرة، وسقف أي صراع كان معلومًا للكافة؛ ما ساعد المراقبين على الرصد الهادئ للأحداث مهما بدت في حال الغليان، ومهما بلغ بها الفوران.

في الساعات الأخيرة، من العام 2018، أعترف لكم بعجزي عن الرصد الهادئ لعام يطوي أوراقه ويرحل، دون أن أزعم في ذات الوقت، أدنى قدرة على توقُّع ما هو آت في العام الجديد 2019م.

قبل عامين، كتبتُ مُستَقبِلًا العام 2017، ومستشرِفًا العام 2018، فقلتُ ردًّا على سؤال: إن الأول هو عام رفع مُخلَّفات الموائد، وأن الثاني هو عام غسل الصحون.

وأوضحتُ «أن وليمة الأعوام الست الأولى من العقد الثاني من القرن الأول من الألفية الثالثة، كانت ثقيلة على أمعاء الجميع؛ ما أصاب النظام الدولي بتقلُّصات معوية عنيفة، أغلبها لم ينتهِ بعد»، وقلتُ أيضًا: «إن أحدًا لن يبكي على العام المغادر، فقد اجتازت المنطقة والعالم خلاله، أيامًا صعبة بحق، سقط خلالها عشرات الألوف من الضحايا، وتشرَّد مئات الألوف منهم في صراعات أغلبها داخلية، بنكهة إقليمية، ورعاية دولية، لكن أحدًا أيضًا لا يملك على مشارف عام جديد، ترف التمنِّي، بأن يكون العام الجديد هو عام نهاية أحزان الإقليم، وعودة الاستقرار إليه، فدفاتر الحسابات في صراعات المنطقة لا تزال مفتوحة، وأغلب النزاعات ربما نالت هدنة يلتقط أطرافها الأنفاس، لكنها لم تبلغ بعد مرحلة مقنعة لأطرافها، بأن ما جرى كاف، وبأن على الأطراف أن تتعلَّم فنون التعايش، طالما أن إجهاز أي منهم على الآخر بات مستحيلًا».

هكذا بدت لي الصورة وقتها، لكنني أعترف أمامكم الآن، بأن الوقائع قد خذلت التوقعات، فلا العام 2017 كان عامًا لرفع الموائد، ولا العام 2018 كان عامًا لغسل الصحون، بل إن شهية الضيوف على موائد الإقليم، قد انفتحت طوال العامين المنصرمين، وفتحت معها باب التوقعات بلا سقف وبغير قاع.

تواصلت الضغوط على ما تبقَّى من النظام الإقليمي العربي طوال العام الماضي، من قِبَل قوى إقليمية غير عربية (إيران، تركيا، إسرائيل)، وراحت الضغوط تتصاعد قرب نهاية العام، لتبلغ إحدى ذراها، مع قرار الرئيس الأمريكي ترامب بسحب جميع القوات الأمريكية من سوريا؛ لترتبك حسابات أصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها على السواء.

كان الحضور العسكري الأمريكي في شمال سوريا، رمزيًّا إلى حدٍّ كبير، بقوة لا تتجاوز ألفي رجل، لكنه كان كافيًا، للجم طموحات الأتراك وأطماع الإيرانيين؛ إذ كان يعكس مستوى الالتزام الأمريكي تجاه ما يجري شرق المتوسط، وتجاه حلفاء واشنطن في المنطقة. لكن الرئيس الأمريكي الذي باغت مساعديه في البيت الأبيض وخصومه في الكونجرس بقرار الانسحاب من سوريا، اختار أن تكون آخر الصور له قبل ساعات من نهاية العام، وسط قواته في العراق؛ ما قد يعكس محاولة لطمأنة شركائه في المنطقة، وتهدئة خصومه ومؤيديه داخل الولايات المتحدة.

بالإقدام أو بالإحجام، تظل واشنطن القوة الأكثر تأثيرًا في أحداث عام مضى، بينما تبدو موسكو في المقابل القوة الأكثر حصدًا للنقاط في مختلف المواجهات، عبر مختلف المسارح الدولية، بتركيز أكبر على مسرح الشرق الأوسط، تلك المنطقة التي لا تزال مسجاة فوق طاولة الرسم بغرفة الخرائط.

في العام المغادر، ما زال الأكلة يتسابقون على قصعتنا في الشرق الأوسط، وما زال أصحاب القصعة عاجزين عن ذب المتسابقين عليها، والحال مُرشَّح للاستمرار في العام الجديد، دون أن ينجلي المشهد عن هوية مَن سيرفع مُخلَّفات الموائد، ولا مَن سيغسل صحونها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store