Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

الشعبوية قادمة.. والعولمة قائمة

A A
هل الشعبوية هي مجرد انعطافة خاطفة في حركة التاريخ، يعود بعدها التاريخ إلى مسار اختطه لنفسه منذ انهيار جدار برلين، أو أنها تقلصات تسبق ولادة عصر ما بعد العولمة؟!

بعض مَن يرصدون ظاهرة ترامب في الولايات المتحدة، وظاهرة بولسونارو في البرازيل، يَرَوْن أن ما يجري هو تحوُّلات حقيقية في مسار حركة تاريخ ما زالت في طور شق مجار لأنهارها، فيما يرى بعضٌ آخر أن ما يجري من صعود لـ«الشعبويات»، هو مجرد انحناءة عابرة في مسارٍ عنيد سرعان ما يستعيد قبضته القوية على مسار تاريخي مهَّد له الفلاسفة، وعمَّقته آلة الحرب، وماكينات الاقتصاد، وربطته تقنيات الاتصال برباط لا ينفصم.

هل الشعبوية حالة عارضة، أو طفرة خاطفة، صنعها تحوُّل عابر في المزاج الإنساني العام؟! أو أنها ظاهرة عابرة للحدود والأزمان، بحكم تأثير ثورة تقنيات الاتصال، التي سمحت عبر الألعاب الإلكترونية (مثلًا) بتشكيل فريق واحد من أعضاء غير متجانسين، حضاريًّا، وثقافيًّا، وإثنيًّا، واقتصاديًّا، يخوضون معًا مباراة إلكترونية، ضد فريق منافس آخر. يضم أعضاء من ملبورن في أستراليا، وحتى كيجالي في رواندا، مرورًا ببنجالور في الهند؟! هذا الجيل، الذي يُهيمن بتقنيات الاتصال على صناعة وصياغة مزاج عام عابر للحدود، لم يقرأ على الأرجح عن هيجل أو ماركس أو شوبنهاور، ولم يعد يتفاعل مع كفاح غاندي وجهاد عمر المختار، بعدما أصبح رونالدو ومايكل جاكسون ومحمد صلاح هم أبرز رموزه وأعمقهم تأثيرًا في رؤيته لنفسه وللعالم.

هذا الجيل، الذي يصنع معجزة حقيقية في الاقتصاد (الحر) للصين الشيوعية، ليس جيلًا عابرًا تدفعه انحيازات سياسية عابرة، لكنه جيل يضع بصمته على قرن بأكمله بدأ للتو قبل سنوات، بمشهدٍ كان يجب أن نراه موحيًا، حين اندفع بعض الشباب المشبَّعين بأفكار القرون الوسطى، مستخدمين أحدث تقنيات الاتصال، لشن ما عُرف لاحقًا بـ«هجمات ١١ سبتمبر».

موجة هجمات سبتمبر كانت نتاج بعض الشعبويات الصاعدة، تُغذيها المخاوف، ومشاعر القهر الحضاري، كذلك كانت موجات ما سُمِّي بـ(الربيع العربي) تعبيرًا عن توق عاطفي جارف (شعبوي) للتغيير، لا يعترف لا بموازين للقوة ولا بحسابات للقدرة، ولا بموازنات للفعل ومضاعفاته، وكلنا نرى الآن مآلات العفوية العاطفية الشعبوية في منطقة تمتد من الخليج إلى المحيط الأطلسي، فالذين استدعوا التغيير أو تجاوبوا مع دعواته، هم أنفسهم مَن يُلحون في طلب (الاستقرار) مهما كان ثمنه.

في مقالٍ للصديق عبدالعظيم حمّاد بصحيفة الشروق المصرية، تحدَّث عن «نهايات طُرق في نهاية عام»، معتبرًا أن خسارة الجمهوريين للأغلبية في مجلس النواب الأمريكي هي «مؤشر على نهاية هيمنة الشعبوية القومية الانعزالية على السياسة الأمريكية داخليًّا وخارجيًّا»، وأن انحسار هذه الشعبوية في الولايات المتحدة سوف يعني -وفق رؤية متفائلة- نهايتها في العالم كله، واستئناف عملية العولمة «بمفاهيم وتطبيقات أكثر نضجاً، وأكثر اهتمامًا بالشرائح الأضعف اقتصاديًّا واجتماعيًّا في الدول الصناعية المتقدمة، أي دمج الأسواق سلميًّا ولمنفعة الجميع، بعيدًا عن سطوة النزعة العسكرية الأمنية».

لا أجدني ميَّالًا إلى هذه الرؤية، فالشعبوية كما أراها، ليست انعطافة خاطفة في مسيرة الإنسانية، وإنما هي تيار استدعته مخاوف، أسهمت تقنيات الاتصال في مضاعفة تأثيراتها، لدى جماهير غفيرة باتساع العالم، قد تتشارك في الرزق، لكنها لم تكن تتشارك في صناعة القرارات التي تُؤثِّر على مقدار هذا الرزق.

هذا التيار (الشعبوي) مُرشَّح للبقاء، وربما للصعود، تحت وطأة تزايد المخاوف، فيما تتحدَّث إشارات خبراء ماليين عن أزمة مالية وشيكة، مماثلة لتلك التي انفجرت في الولايات المتحدة في العام ٢٠٠٨. الشعبوية إذن ليست مُرشَّحة للانحسار، وما دامت مُبرِّرات استمرارها قائمة، فإن فرص بقاء ترامب كأحد أعلى تجلياتها، تبدو قائمة أيضًا، طوال ما تبقَّى من فترته الرئاسية الأولى، وحتى إمكانية فوزه بفترةٍ رئاسية ثانية. الشعبوية، تتغذى على مزيج من المخاوف، والمشاعر الوطنية الضيِّقة، وهي مفاهيم ضد فكرة (العولمة)، وهكذا فالشعبوية والعولمة ضدان، لا ينهضان معًا، ولا يمكنهما التعايش طويلًا، ومع ذلك، فإن ثمة أمل في أن يُسهم صعود الشعبوية في ترشيد العولمة المتوحشة.

بالتقنية العابرة للحدود، تبدو العولمة فكرة لا يمكن هزيمتها، وبالمخاوف المستكنة داخل الحدود، ولدى بعض الثقافات، تبدو الشعبوية تيارًا لا يمكن تجاهله، لكنها في تصوري لا تستطيع الصمود أمام حقائق تفرضها تقنيات الاتصال الآخذة في التطور على حساب كل زمنٍ وأي مسافة. ما أراه في اللحظة الراهنة، بعد ساعات فقط من تولِّي الرئيس البرازيلي (الشعبوي) بولسونارو مقاليد الحكم في بلاده، هو أننا بإزاء تقلُّصات تسبق بالضرورة، ولادة عصر ما بعد العولمة؛ إذ تتعايش العولمة -جنبًا إلى جنب- مع ثقافات حصنها الخوف من الاندثار.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store