Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أحمد عبدالرحمن العرفج

كشف الملامح في محطات النصائح

الحبر الأصفر

A A
لَيسَت هَذه المَرَّة الأُولَى؛ التي أَكتُب فِيهَا عَن النَّصَائِح، ولَن تَكون الأَخيرَة. فلَا يَجب أَنْ تَتوقَّف حَيَاة الإنسَان فِي مَحطَّات اليَأس، بانتظَار مرُور أَي قِطَار مُحمَّلاً بنَصَائِح؛ يَتعلَّق بأطرَافها الحَيَارَى، لأنَّه مَهمَا كَانت وِجهة ذَلِك القِطَار، فقَد تَحدَّدتْ مُسبَقاً.. لَكن ذَلك لَا يَمنعنَا مِن الاستئنَاس؛ بآخِر مَحطَّات النَّصَائِح..!

فالاستجَابة للنَّصَائِح؛ والالتزَام بمَضمونهَا، أَمرٌ مُتعبٌ وشَاقٌّ عَلَى النَّفس، لِذَلك لَا تَتعجَّب أَنَّ الإنسَان لَا يَستَجيب -أَحيَاناً- إلَى النَّصَائِح التي يُسديهَا لنَفسه، مَهمَا كَان مُقتنعاً بِهَا، وقَد بَسَّط هَذه المَسأَلَة؛ الفَيلسوف «سيروس» حِينَ قَال: (أَحيَاناً أُسدِي النَّصَائِح الجيِّدة لنَفسي، ولَكنَّني أَعجزُ عَن العَمَل بِهَا)..!

وقَد حَاولتُ أَنْ أَجد تَشبيهاً يَصف مَذَاق النَّصيحَة، فبَحثتُ فِي بطُون الكُتب، والقَوَاميس والمَعَاجِم، وأَخيراً عَثرتُ عَلَى أَبلَغ تَعريف؛ قَرأتُه لأحَد الحُكمَاء، يَصف النَّصيحَة بدِقّة، قَائِلاً: (النَّصيحَة كالدَّوَاء: إعطَاؤهَا سَهل، وقبُولهَا صَعب)..!

وكُلّنا نَملك جِهَازاً عَقليًّا؛ يُفرِّق بَين النَّصيحَة الطيِّبَة والنَّصيحَة الرَّديئَة، لِذَلك، هَل نَحنُ -فِعلاً- بحَاجةٍ إلَى نَصَائِح، طَالَمَا أَنَّنا نَتمتّع بهَذه العَقليَّة؟، دَعونَا نُفكِّر مُستَعينين -بَعد الله- بحِكمةِ لأحَد الفَلَاسِفَة، حَيثُ قَال: (إذَا كَان فِي استطَاعتك؛ إدرَاك الفَرق بَين النَّصيحَة النَّافِعَة؛ والنَّصيحَة الضَّارة، فأنتَ لَم تَكُن أَصلاً بحَاجةٍ إلَى نَصَائِح)..!

أَكثَر مِن ذَلك، لَا تَثق كَثيرًا بالنَّاس الذين يَطلبون مِنك النَّصيحَة، لأنَّ الأَغلبيّة يَسألك النَّصيحَة، وهو فِي الحَقيقة؛ يُريدك أَنْ تُؤيِّد وتدعم فِكرة قَد قَرَّرهَا مُسبقاً، ومِثل هَؤلاء البَشَر؛ لَا يَستَطيعون خِدَاع الفَيلسوف «كولتون» الذي يَقول: (نَحنُ نَطلب النَّصيحَة، ولَكن مَا نُريده هو الاستحسَان)..!

والنَّصَائِح ثَقيلَة عَلَى النَّفس، وأَغلَب النَّاس لَا يُحبُّون النَّاصحين، لِذَلك لَا تَتعجَّب أَنْ تَسمَع صرَاخ الأَديبَة «ماري فورتاجو» وهي تَقول: (إنَّني أُسدِي نَصَائِح؛ أَنَا نَفسِي لَا أَقبلهَا)..!

كَمَا أَنَّ النَّصيحَة لَهَا أَشكالٌ مُتعدِّدة، فقَد تَأتي بالأقوَال، وقَد تَأتي بالأفعَال، وقَد تَأتي مِن القُدوة، ولَكن أَقوَاهَا مَا يَأتي مِن الصَّمت، ولَعلَّ الرَّئيس الأمريكي الأَسبَق «بنجامين فرانكلين» كَانَ شُجَاعاً، وهو يُحيلنَا إلَى حِكمَة النَّملَة قَائِلاً: (النَّملَة -عَلَى صَمتهَا- أَفضَل النَّاصحين)..!

حَسنًا.. مَاذَا بَقي؟!

بَقي القَول: النَّاس يَتسَاهلون فِي إسدَاء النَّصَائِح، ولَو بَحثتَ عَن سَبَب مَنطقي لهَذا الاستسهَال، لوَجدتَ أَنَّ السَّبب يَعود إلَى: عَدم قُدرتهم عَلَى تَطبيق نَصَائِحهم، والقُرآن الكَريم ألقَى باللَّوم عَلَى الذين يَأمرون النَّاس بالمَعروف، ويَنسون أَنفسهم. لِذَلك كُلَّما زَادَ الإنسَان فِي إسدَاءِ النَّصَائِح، كَان ذَلك دَليلاً عَلَى أَنَّه أبعَد النَّاس عَنهَا، وفِي ذَلك يَقول الأديب «سانت جيروم»: (لِمَاذَا لَا تُمَارس أنتَ المَوعِظَة؛ التي تَنطق بِهَا؟)..!!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store