Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

أم كلثوم.. قارورة عشق عربي فوَّاح

A A
مثل قارورة عطر قديم، يستطيع صوت أم كلثوم أن يحملنا إلى زمنه، بكل تفاصيله، وبأدق ملامحه، أسمعها تترنَّم بصوتِ الحب «وانت يا غالي علي.. كله في حبك يهون»، أستعيد ضجيج الشارع، بينما مذياع قديم يتربَّع فوق رف خشبي بمقهى بلدي في حي شبرا الشعبي يُردِّد ذات الأغنية، من موجة إذاعة الأغاني، التي كان المصريون يُسمّونها إذاعة أم كلثوم، فيما يتهامس بعض مدّعي العلم بخفايا الأمور، أنها إذاعة سرية أقامها عبدالناصر لتعمل عند الطوارئ إذا ما تعرضت الإذاعة المصرية لقصف الأعداء، كما حدث أثناء العدوان الثلاثي في عام ١٩٥٦م.

يختلف المصريون وكذلك العرب، حول الكثير من القضايا الثقافية والفكرية والفنية والسياسية، لكنهم يجتمعون حول صوت أم كلثوم، وبينما تبدي جامعة الدول العربية عجزًا لا تُخطئه العين عن توحيد العرب، أو حتى بناء توافق عام فيما بينهم، كان بوسع صوت أم كلثوم، أن يجمعهم في الخميس الأول من كل شهر، وأن يُوحِّد مشاعرهم ، بل وأن يضبط المزاج العربي العام، كلما ارتفع ستار المسرح عن أم كلثوم تشدو بإحدى روائعها وما أكثرها.

غنَّت أم كلثوم من كلمات الأمير عبدالله الفيصل (السعودية)، ومن كلمات الشاعر الباكستاني محمد إقبال، والسوداني الهادي آدم، واللبناني جورج جرداق، والسوري نزار قباني، كما غنَّت أشعار بيرم التونسي، وأحمد رامي. وأمير الشعراء أحمد شوقي، بل إنها استدعت من التاريخ أشعار عمر الخيام وأبي فراس الحمداني.

كان بوسع حنجرة أم كلثوم تسويغ ما لا يسوغ، وتمرير ما لا يمر، إذ جعلت البسطاء من عامة الناس، الذين لم ينالوا قدرًا من التعليم، قادرين على الاستمتاع بنهج البردى، وبالأطلال، وبرباعيات الخيام، وعلى تدبُّر معانيها، وكانت لدى تلك الحنجرة الفريدة، قدرة أيضًا على الارتقاء بأبسط المعاني، إلى مستويات شعورية عظيمة الرقي بالغة الفخامة.

كنت أقول لرفاق الاستمتاع بالطرب الأصيل: إن مصدر الفخامة في بعض أشهر أغنيات أم كلثوم، هو حنجرة أم كلثوم ذاتها، لا الكلمات ولا حتى الألحان، وكنت أُدلِّل على ما أقول، بأغنيتين لأم كلثوم أسميتُ إحداهما النشيد الوطني للصباح، وهي أغنية (يا صباح الخير ياللي معانا)، التي لا يبدأ النهار عند المصريين إلا بها، والثانية أسميتُها (النشيد الوطني للعيد) وهي أغنية (يا ليلة العيد أنستينا)، التي لا يحضر العيد عند معظم العرب إلا بحضورها.

كلتا الأغنيتين بسيطة المعاني، مسطحة الألفاظ، لكنها بكاريزما صوت أم كلثوم عاشت ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن، تُغذي الوجدان العربي، وتُبشِّر ملايين العرب بقدوم الصباح، أو بقدوم العيد.

كنت أقول لرفاقي من عشاق الطرب الأصيل: إن التاريخ قد ادخر لأم كلثوم دليلًا ساطعًا على عبقرية صوتها، وعلى الكاريزما الخاصة جدًا لحنجرتها الفريدة، لم يُعلنه إلا بعد أعوام من رحيلها، هذا الدليل جسّده نص شعري كتبه شاعر الأطلال د. إبراهيم ناجي، ولحّنه موسيقار الأطلال رياض السنباطي، وكان من المفترض أن تتغنَّى به أم كلثوم، لكن القدر لم يمهلها، فارتأى السنباطي أن يدفع بالأغنية الى الفنانة الراحلة سعاد محمد، وهي من هي بحنجرة ذهبية مُتميِّزة، وبقدرات طربية رفيعة، كان اسم القصيدة هو (لقاء)، وكان من المفترض أن تكون الجزء المكمل للأطلال، فتلقى لدى المستمع ما لقيته الأطلال، وتعيش في الوجدان العربي، كما عاشت الأطلال، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث، هل تعرفون لماذا؟.. إنها كاريزما حنجرة أم كلثوم، تلك التي جعلت صوت (الست) أعمق حضورًا وتأثيرًا من صوت جامعة الدول العربية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store