Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

الطفولة راديو.. والنضج كابوس

A A
يتوهم الآباء دومًا أن أطفالهم عباقرة، وأنهم يأتون بما لم يأتِ به الأوائل، ويحتفون بأول كلمات الطفل وبأول حركاته، ولا أظن أن طفولة أي منَّا قد خلت من هذا المشهد، لأبوين يُبديان إعجابًا مفرطًا بما يأت به طفلهما، من أفعالٍ أو أقوال، يعتقدان أحدهما أو كليهما، أنها دلالة نبوغ مبكّر، أو ذكاء مفرط.

بدأ اهتمامي المبكر بنشرة الأخبار، من هذا الباب الذي فتحتُ عيني كطفلٍ على اهتمام أبوي به، كانا يحرصان على الإنصات إلى الراديو في مواعيد نشرات الأخبار، وكانا يُصدِّقان كل ما يأتي به الراديو، ولفرط اهتمامهما بذلك وثقتهما فيه، أبديتُ أنا أيضًا مثل هذا الاهتمام، ليس عن وعي بدواعيه، وإنما عن سعي لاسترضاء أبوي، اللذين كانا يُبديان سعادة مفرطة بهذا الطفل الذي ينصت معهما لنشرات الأخبار، ويُردِّد- كببغاء- ما يرد فيها من أخبارٍ أو آراء أو تعليقات.

كنتُ محظوظًا بالانتماء إلى أسرة تنصت إلى نشرات الأخبار على مدار اليوم، وإلى وطنٍ اختار أن يعتبر نشرات الأخبار عنده، علامة على أنه حي يتمتع بكامل الوعي، وبموفور الصحة، بل إنني أظن أننا ربما كُنَّا أول جيل في المنطقة العربية كلها يحتفي بأن لدى إذاعته أخبار، بعدما راح الراديو يدعو مستمعيه إلى الإنصات لنشرات الأخبار باعتبارها أحد أهم منجزات هذا العصر..!

كانت الإذاعة المصرية قد بدأت قرب نهاية الخمسينيات أو بعدها بقليل، بث أغنية للمطرب محمد قنديل، صاحب الصوت الرخيم -الذي وصفته أم كلثوم بأنه من أفضل الأصوات- تقول كلمات الأغنية التي كتبها الشاعر حسين طنطاوي، ولحّنها الموسيقار أحمد صدقي:

ع الدوار.. ع الدوار

راديو بلدنا فيه أخبار

يعني ليعد كل منكم إلى داره (الدوار)، حيث يبث الراديو الأخبار، ثم يواصل محمد قنديل النداء، بصوته القوي:

(يا اللي في قاعة.. يا اللي في خص.. قوم دي الساعة ثمانية ونص.. والراديو عمال بيرص.. في الأخبار قلبك يتهنَّى.. كنا في نار وبقينا في جنة.. واللي ظلمنا بقى في النار.. ع الدوار ع الدوار.. الجرانين بترد الروح.. وتداوي القلب المجروح.. خير جاي لنا بالقنطار.. ع الدوار ع الدوار.. طاقة القدر شافتها عنينا.. والدنيا دي بقت في أيدينا.. واللي خلقنا فرجها علينا.. كنا عبيد وبقينا أسياد.. كنا في ليل والنور اتقاد.. كنا صغار وبقينا كبار.. ع الدوار ع الدوار).

هل عرف أي منكم من قبل أو سمع عن نشرة أخبار يجري تقديمها باعتبارها من منجزات وطن ما فوق خارطة هذا الكوكب؟!.

أنا سمعتُ ورأيتُ ووعيتُ وحفظتُ كما ترون، آنذاك لم يكن بوسع أحد التحقُّق مما يتلقَّى من أخبار، فثمة مصدر وحيد للمعلومات، أما المصدرين الثاني والثالث، وأعني بهما إذاعة بي بي سي البريطانية، وراديو صوت أمريكا، فكان استقبال بثهما صعبًا، وكانا هما أيضًا ومازالا يكذبان، ولكن باحترافية أعلى، وبقدرة ترويج أشد.

استَدْعَت ذاكرتي كل ما تقدَّم، وأنا أُتابع ما يجري في الجزائر، وما يدور في السودان، وأحاول أن أفهم ما الذي يحدث في ليبيا. فالمنطقة الملتهبة من حولنا، تُؤكِّد أن أغنية محمد قنديل كانت تحمل من الأمنيات أكثر مما تحمل من الحقائق، أو أنها بالأحرى كانت مادة تخدير بالأوهام، فلا الجرانين (الجرائد) بترد الروح، ولا الأخبار بتدواي القلب المجروح، ولا الخير جاي لنا بالقنطار، فشعوب المنطقة مازالت تُفتِّش تحت أنقاض التاريخ عن مستقبل ما. بينما خارطة المنطقة ذاتها، ما تزال مفروضة أمام قوى خارجية تقص من أطرافها لتصل بأطراف الآخرين الوافدين عليها، فيما تترقب أغلب شعوبها تأويلات ما يُسمَّى بصفقة القرن التي يعد بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دون أن يُفصح عن فحواها.

بهذه الروح المتشككة فيما تُردِّده وسائل إعلام لكل منها أجندته الخاصة، أو أجندة مموّليه، رحتُ أُتابع ما يجري في السودان، والجزائر وليبيا، بينما تُلِّح على رأسي الأسئلة: هل ما يدور في البلدان الثلاث هو الطور الثاني مما يُسمَّى (الربيع العربي)؟!، أم أنه فعل تغيير ذاتي لا تأثير للخارج عليه؟!، وهل ما زال بوسع الشعوب أن ترى الأمل خلف ما ظن بعضها أنه ثورات تغيير باتجاه المستقبل، فإذا توابعه عند بعضها، مجرَّد حرائق تحملها باتجاه ماض غادرته الحضارة قبل قرون؟!.

ليست لديَّ إجابات جاهزة، فقد غادرت زمن أوهام وعدتنا بأن (الخير جاي لنا بالقنطار).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store