Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

عن أفكار القوة.. وقوة الأفكار

A A
من الذي يرسم الخرائط فوق سطح هذا الكوكب.. أفكار القوة، أو قوة الأفكار..؟! تُنبئنا صفحات التاريخ القديم، أن أدوات القوة هي مَن رسمت الخرائط الأولى للحضور وللنفوذ وللمصالح، بينما تقول لنا صفحات التاريخ الحديث التي تغطي القرون الثلاثة الأخيرة، أن قوة الأفكار، هي مَن ترسم الخرائط.

أين الحقيقة؟.. مَن الذي يرسم خرائطنا الآن: أفكار القوة؟ أو قوة الأفكار؟!.. دعونا نعترف، أن العالم بكل قوى التأثير فيه، قد تأثَّر بالمفاهيم والأفكار والتصوُّرات الأمريكية، على مدى القرن الفائت، منذ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها.. وأن هذه المفاهيم والأفكار والتصوُّرات قد ساهمت بقدرٍ ملحوظ في رسم خريطة العالم، وأنها ما زالت تؤثر في مآلات تلك الخريطة حتى لحظة كتابة هذه السطور.. دعونا نعترف أيضًا، أننا هنا في المنطقة العربية، كُنَّا وما زلنا، الأسرع في التأثر بالرؤية الأمريكية لمنطقتنا، وقد لخَّص الرئيس المصري الراحل أنور السادات ذلك بمقولة لم يسع أحد لإثبات عكسها، حين قال: إن «99 % من أوراق الحل والعقد في الشرق الأوسط هي بيد الولايات المتحدة».

لم تكن الأفكار الأمريكية ملهمةً ومبهرةً، بقدر ما كانت أدوات القوة الأمريكية قادرةً على بسطها، شاء مَن شاء، وأبى مَن أبى.. المعرفة، كانت وما زالت مصدر القوة الأمريكية التي سمحت لواشنطن بالتربُّع فوق قمة النظام الدولي على مدى عقود مضت، كان بوسع واشنطن عبر استئثارها بالنصيب الأوفر من المعارف والعلوم أن تُعمِّق الفجوة بينها وبين العالم، وأن تزداد قوةً، وقدرةً، وتأثيرًا، لكن انتقال المعرفة عبر الباسيفيكي إلى الصين، يُوشك أن يقوض موازين قوة بدت مستقرةً على مدى أكثر من نصف قرن.

في باب المعرفة التقنية، تبدو شركات مثل ميكروسوفت وأبل، وجوجل، وفيس بوك، وواتساب، وانستجرام، أدوات هائلة للسيطرة والتأثير، لكن دخول شركتين صينيتين على هذا الخط، (هواوي) و(سي، إي، آي، سي، إي)، يُوشك أن يقوض أحد أبرز مقومات القوة الأمريكية، ليس بالحد من سيطرة الولايات المتحدة على الحصة الأكبر من اقتصاد المعرفة فحسب، وإنما أيضًا، بالحد من تأثير القيم الأمريكية على الكثير من دول العالم، فنجاح الصين في امتلاك تقنيات السيطرة المعلوماتية، يُوشك أن يخترق الولايات المتحدة ذاتها، لولا إجراءات ترمب الحمائية الأخيرة.

على مدى أكثر من قرنين من الزمان طوّر الأمريكيون نموذجًا ناجحًا للحكم والإدارة؛ اعتمد القِيَم والمبادئ التي بشَّرت بها الثورة الفرنسية، ونجحوا في نشر هذا النموذج أو حتى فرضه بالقوة، في الكثير من مناطق العالم في أوروبا والشرق الأقصى، وأمريكا اللاتينية، لكن ثمَّة نموذجًا آخر عبر الباسيفيكي، يُطوِّر ذاته في هدوء، ويسعى إلى التمدُّد والانتشار، دون صخب، ودون استخدام فعلي للقوة، هذا النموذج هو ما تُجسِّده الصين، وتسعى لنشره عبر مبادرة (الحزام والطريق)، التي التأمت قمّتها أمس في بكين.

نموذج لف الحزام الصيني الناعم حول خاصرة الكوكب، عبر مبادرة الحزام والطريق، أكثر ما يُزعج الولايات المتحدة في اللحظةِ الراهنة.

مظاهر هذا الانزعاج عبَّرت عنه بوضوح إجراءات ترمب الحمائية ضد الصين، وتحذيراته لحلفاء واشنطن الغربيين من استخدام تقنيات هواوي الصينية للجيل الخامس من الهواتف المحمولة، لكن أخطر التحذيرات على الإطلاق حملها تقرير لصحيفة نيويورك تايمز التي يُناصبها ترمب العداء، تحدَّثت فيه عن مخاطر استعانة حلفاء أمريكيين ببرامج وأجهزة مراقبة إلكترونية صينية، عالية الكفاءة جدًّا، ومنخفضة التكلفة جدًا، وألمحت الصحيفة الأمريكية بقلقٍ إلى إمكانية استفادة بكين مما تجمعه تلك التقنيات من معلومات حيوية، مشيرةً إلى حضور صيني طاغٍ لتلك التقنيات في الفناء الخلفي لواشنطن ببعض دول أمريكا اللاتينية (الإكوادور مثلًا) وكذلك في أوروبا (ألمانيا بصفة خاصة).

أخطر ما في الانتشار الصيني الهادئ، بلا صخب، ودون ضجيج، هو تأثُّر مناطق الانتشار بمنظومة قِيَم صينية، تنتقل عادةً بصحبة التقنيات الواردة من الصين. تمامًا مثلما انتقلت القِيَم الأمريكية عبر السلاح والجنود والسينما والنقانق والبرجر والبيبسي والكوكاكولا.

زَحْف القِيَم الصينية، تحت الحزام، وعبر الطريق، ومن خلال تقنيات هواوي، هو أخطر تحدٍّ حقيقي تُواجهه الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

أفكار القوة صاغت خرائط عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن قوة الأفكار، تحت الحزام وعبر الطريق، تُوشك أن ترسم خريطة جديدة لنظام دولي جديد ناطق باللغة الصينية.. الأرض توشك أن تتحدَّث بالصينية، ولا مكان في المستقبل لمَن لا يتعلَّمها الآن، دعونا نُدشِّن حركة ترجمة لأمهات الكُتب الصينية، فدون المعرفة قد يخنقنا الحزام ويضيع من أقدامنا الطريق.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store