Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طلال طه ضليمي

وداعًا.. آمنة

A A
غادرتِ بيتك ولم تغادري قلوبنا.. حملنا جسدك إلى بقيع الغرقد، حيث الجوار الكريم ومن سبقك من أهل بيتك، وبقيت روحك ساكنة في جوانحنا.. يتشبث الكبار بالصبر، وتسيل دموع الصغار حين يرون الحزن مقيماً على الوجوه. الكل افتقد نبع الحنان وبسمة الرحمة ونظرة الدعاء.. الوداع كلمة عاجزة عن نقل حقيقة مشاعر فقد الأم، فلا أحد يريد توديع مصدر أمنه وواحة اطمئنانه، حتى وإن كثرت مقالات وداع الأمهات.. كيف يُودِّع الإنسان مصدر وجوده، أمه التي تخلَّق في رحمها، ونمت عظامه ولحمه من دمها، وتفتحت عيونه على بسمتها، ليستمر هذا الرباط العضوي في رضاعته وتربيته والسهر عليه، وبثه الحب والحنان الذي يشكل جوارحه، لتستمر هذه العلاقة مهما كبر الابن أو الابنة، إلى أن تأتي لحظة الفراق التي يشعر فيها كل إنسان أن سر وجوده قد اختفى، وأنه فقد الصلة ببداية حياته، ولم يتبقَ له إلا أن يصل يوما ما إلى الشاطئ الآخر لحياته. فماذا يمكنني أن أضيف إلى ما كُتب عن فقد الأم من مشاعر اللوعة والأسى والفقدان؟.. تجربة لا يدرك حقيقتها إلا من اجتاحته مشاعرها في تلك اللحظة التي تجتمع فيها كل المشاعر الإنسانية.

أمي الحبيبة: في لحظة الفقد الكبير، وقد غادرت دنيانا إلى رحمة الجواد الكريم، أستحضر بعض ما شكَّلته شخصيتك، في محيطك الصغير والكبير، تفتح الذاكرة صفحة من حياتك فإذا: آمنة بنت شفيق عبدالجواد، الابنة الثانية بين سبع شقيقات وشقيق واحد، فتاة تعلَّقت بحب المدينة وساكنها، منذ نعومة أظفارها، وعاشت في كنف جدها يوسف مع والديها وأختها الكبرى وأعمامها وعماتها في بيت مجاور لمسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وظل قلبها مُعلَّقاً بهذا الجوار الكريم، تتسع مساحته في وجدانها كُلَّما تقدَّم بها العمر، وفي سنواتها الأخيرة كانت تعوض فترات غيابها عن المدينة المنورة، بمتابعة شاشة «السنة النبوية» حتى لا يغيب حُبّها الكبير عن نظرها، وقد استقر في القلب.

تلك الفتاة التي كانت درة من فتيات المدينة، المحبوبة من الأهل والصديقات، حاولت أن تحصل على ما هو متاح من تعليم في حينه، ختمت القرآن، وتعلمت التفصيل والخياطة، ولعلها كانت أول مصممة أزياء سعودية في ذلك الزمن، يتهافت الأهل والصديقات عليها لتصمم فساتينهن. وقد تميَّزت طوال حياتها، بالإصرار والمثابرة و الإتقان إلى طلب الكمال والالتزام بالأصول والحرص الشديد على النظافة والأناقة لآخر لحظة في حياتها.

وكان اقترانها بوالدي، أسرع زواج، حيث وافق والدها على زواجها من أمين جمارك الشرقية، لِمَا نَمَا إلى علمه عنه من سمعة طيبة، بعد تكرار رفضه لعدد من الخُطَّاب من الأسر المدينية المعروفة، فقبلت بقرار أبيها، وكانت لزوجها، الذي لم تعرفه من قبل، نِعم الزوجة، كما كانت نعم الأم لأبنائه منها: طلال وليلى وسوسن. وعندما زارت الدكتورة عائشة عبدالرحمن، بنت الشاطئ، المملكة العربية السعودية عام ١٥٩١ لتكتب عن الدولة الفتية والمجتمع السعودي، كان الاختيار أن تلتقي بهذه السيدة المدينية، عند زيارة الدمام، كنموذج للمرأة السعودية الشابة والعصرية، لكنها أطلقت لخيالها العنان لتنسج قصة قصيرة بعنوان: «آمنة»، نشرتها بمجلة روز اليوسف، حينها، ثم عادت وضمنتها كتابها عن المملكة «أرض المعجزات».

وكانت آمنة هي الأم الثانية لأخواتها الذين يصغرونها، فكم كانت تحتضنهم في بيتها، وكثيراً ما اصطحبتهم معها في رحلات الصيف إلى لبنان ومصر، وقد ألفت، منذ طفولتنا، أن تأخذنا في العطلة الصيفية الطويلة، وتتولى ترتيب المسكن والمأكل والنزهات، إلى أن يصل الوالد ليقضي معنا شهر إجازته. وحرصاً منها على أن أتلقَّى تعليماً مميزاً، منذ الصغر، اتخذت مع الوالد قراراً صعباً، بإلحاقي بالقسم الداخلي بمدرسة مانر هاوس (بورسعيد) بالزمالك في القاهرة، والمعروفة بتعليمها ونظامها الإنجليزي، وتقبلت غيابي عنها لعامين، وأنا في التاسعة من العمر، وهي التجربة التي كان لها أثر واضح على سلوكي، وعلى إجادتي اللغة الانجليزية من سن مبكرة. وحينما فتحت مدارس الثغر النموذجية في جدة، وجدت فيها البديل المناسب للدراسة في القاهرة. وعندما ذهبت مع والدي وبرفقة ابن خالتي للتسجيل في الثغر لم يكن مديرها الأستاذ محمد فدا موجوداً، وفهمنا من أحد مساعديه أن باب التسجيل قد أغلق، فما كان منها، عند عودتنا إلى البيت، إلا الاتصال بالأستاذ محمد فدا، قائلة له: أنا لم أحضر طلال من القاهرة إلا على أساس أن يدخل الثغر، ويبدو أن ثمة تفاهم مسبق على ذلك، فكان ردّه: ليس لكِ إلا ما تريدين، وليأتوا غدا مع الشيخ طه لنتمم تسجيلهم، وقد كان.

وتمر بِنَا الأيام ونحن نكبر، وهي ترعانا وترعى والدنا، الذي كان يعطي أولوية قصوى لعمله، إلى أن جاءت المرحلة الجامعية، فتحمّلت ابتعادي إلى الظهران، ثم بيروت، ثم الولايات المتحدة في مرحلة الماجستير، ثم ابتعاد أختي ليلي للدراسة في بيروت، ثم الولايات المتحدة، وهي والوالد لم يُفرِّقا بين الابن والبنت في حق التعليم المميز. وعندما قدما للولايات المتحدة وأمضيا عدة شهور معنا، التحقت بمدرسة لتعلُّم اللغة الإنجليزية وأبلت بلاءً حسناً.

واتسع شعاع محبتها بعد عودتنا ليغمر كنّتها وزوج ابنتها الثانية سوسن، وما أنعم الله عليها من أحفاد مني ومن أختي، ثم عايشت معاناة زوجها بعد التقاعد، ثم الكبر، إلى أن أنهكه المرض في أواخر حياته، وتوفاه الله قبل ثمانية عشر عاماً. لكن أكبر ألم واجهته في حياتها هو المرض الخبيث الذي ألمَّ بابنتها ليلى.. قبل عدة سنوات، ولم تتمكَّن من التخلص منه نهائيا، ثم عاودها بشكل أقوى إلى أن رحلت، قبل عامين ونصف، وهي التي ظلت تعيش معها منذ عودتها من أمريكا، وتعينها وتشاركها الأيام، فكانت المعاناة الأشد وطأة على صحتها. وعلى قلبها.. ولم تجف الدموع في مآقيها لعامٍ كامل بعد رحيلها، وظلت إلى آخر أيامها تناجي صورتها التي وضعتها أمامها. ولعل هذا الألم وهذه المعاناة كان لهما الأثر الأكبر في ضعف القلب، وتدهور صحّتها في الأشهر الأخيرة، إلى أن لاقت ربها راضية مرضية.

واليوم وقد غابت، ابحث عنها واذهب إلى مجلسها، فلا أملأ عيني بابتسامتها الحانية، ولا أشم أريج عطرها، ولا أجد مَن يمدّني بفيضٍ من ذكرياتها وذكريات العمر معها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store