Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد خضر عريف

جاك شيراك: آخر «الديغوليين» الشرفاء

A A
توفي الأسبوع الماضي، وتحديداً في 26/9/2019م الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، الذين تولى رئاسة فرنسا من 17/5/1995م إلى 16/5/2007م. كان قبلها عمدة باريس لمدة 18 عاماً، كما كان رئيساً لوزراء فرنسا لفترتين، ويمكن اعتباره آخر الديغوليين الشرفاء من حيث مواقفه الشجاعة خاصة من قضية العرب والمسلمين الأولى، قضية فلسطين، ومازلت أذكر زيارته للأراضي المحتلة، حين كاد يختنق بين جموع من الناس تحيط به من كل حدب وصوب، فقال وهو يستشيط غضباً : «أتريدونني أن أستقل طائرتي وأقفل راجعاً إلى بلادي؟». ولعل ذلكم ما أراده الإسرائيليون فعلاً، أن يستقلَّ الرئيس الفرنسي الراحل طائرته ويقطع هذه الزيارة التي هزت كيان إسرائيل وخلطت فيها الأوراق وصورتها للعالم كله بصورة الدولة الهمجية السافرة التي لا تراعي فيها أقل بروتوكولات الدبلوماسية والأعراف الدولية. وقتها لم يقع شيراك في الشراك الإسرائيلية، ورفض القيام بجولة في القدس بصحبة عمدة القدس الصهيوني المتطرف إيهود ألمرت، وصرح على الملأ بأن القدس الشرقية ليست أرضاً إسرائيلية وأن فرنسا لا تعترف بضم إسرائيل غير الشرعي لها، وبذلك وجه شيراك صفعة موجعة لوجه إسرائيل. ثم وجَّه ركلة أكثر إيلاماً لإسرائيل حين قال في حيفا إن الدولة الفلسطينية يجب أن تقوم وأن السلام لن يقوم بدونها، وهي شجاعة نادرة وخطوة غير مسبوقة، لم يجرؤ عليها رئيس أوروبي من قبل، فعلى الرغم من تأكيد العديد من رؤساء أوروبا على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إلا أن أحداً منهم لم يتحدث عن الدولة الفلسطينية مباشرة كما فعل شيراك. كما وجه الرئيس الفرنسي رسالة غير مباشرة إلى إسرائيل تعني أنه يرفض مبدأ الاحتلال الإسرائيلي بوجه عام حين طلب من رجال الشرطة الإسرائيلية إخلاء كنيسة سانت آن الفرنسية في القدس الشرقية قبل أن يزورها، وظل شيراك واقفاً لمدة عشر دقائق أمام باب الكنيسة التابعة للممتلكات الفرنسية رافضاً دخولها قبل خروج رجال الشرطة الإسرائيليين الذين دخلوها، وقال عدد من أعضاء الوفد المرافق للرئيس الفرنسي للشرطة الإسرائيلية: «إنها أراضٍ فرنسية، وهو أمر من الرئيس الفرنسي لكم بالمغادرة»، وبعد أن أذعن الإسرائيليون دخل الرئيس الكنيسة، وكانت تلك رسالة واضحة لإسرائيل تعني رفض فرنسا لاحتلال إسرائيل أي أراضٍ يملكها غيرها، وتضاف هذه الرسالة إلى موقف الرئيس الراحل من القدس الشرقية وسواها من الأراضي المحتلة. والحق يقال -وللأسف- إن شجاعة شيراك البالغة فاقت شجاعة العديد من أصحاب القضية أنفسهم الذين يخارون أمام الإرهاب الإسرائيلي والضغط الأمريكي. وأمام هذه الشجاعة النادرة التي تستحضر صورة الجنرال شارل ديغول وهو يطلق عبارته الشهيرة: (Vive La France) تعيش فرنسا، والذي كان رجلاً وطنياً بمعنى الكلمة، اضافة إلى إنهائه للاستعمار الفرنسي في كثير من دول العالم لأنه كان يؤمن بحريات الشعوب، أمام هذه الشجاعة الديغولية النادرة التي أبداها شيراك، يلوح تساؤل كبير في العالم كله: لماذا لا يكون لأوروبا عامة وفرنسا خاصة دور مباشر في عملية السلام في الشرق الأوسط، بدلاً أن يكون دوراً مساعداً كما هي الحال في الوقت الحاضر. ولماذا يبقى هذا الدور حكراً على الولايات المتحدة وهي لم تحسن لعبه لسببين هامين أولهما تحيزها الأعمى لإسرائيل وإصرارها على أن تكون مجريات عملية السلام في صالح إسرائيل وحدها، وثانيهما بُعد الولايات المتحدة عن المنطقة وعدم تفهمها للظروف السياسية والاجتماعية والتاريخية المعقدة فيها، كما أن الولايات المتحدة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنها تركت دورها المفروض في القضية وهو دور الراعي أو المنسق لتعطي لنفسها الحق بلعب دور آخر هو دور الموجه المهيمن، وبدون الدور الأوروبي الفاعل في المنطقة، تبقى العملية السلمية معطلة، وهو ما سعت إليه إسرائيل دوماً ليتسنى لها فرض شروطها وهيمنتها، وتغيير كل المعاهدات والاتفاقيات التي وقَّعت عليها في أوسلو وواشنطن وسواهما. لقد كان شيراك المارد الديغولي (ولو من حيث المبادئ) متفرداً بين زعماء أوروبا في توجيه ضربات موجعة لإسرائيل، وقتها أحسسنا بأن بعض الأوروبيين مازالوا يؤمنون بالعدل والمساواة، وهو ما نفتقده اليوم تماماً.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store