Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

في حتمية المراجعة الجذرية لـ«العلوم الشرعية» «٤»: ماذا بعد وفاة المُؤسِّس؟

A A
تُوفيَ الرسول (المؤسس).. ويَظهرُ من لحظة حادثة السقيفة، وما جرى فيها من وقائع، وتَرتَّبَ عليها من نتائج، أنَّ المسلمين أدركوا ما يكمنُ في معنى (التأسيس) بشكلٍ عفوي.. إنهم أمام بناءٍ سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي جرى العملُ عليه، وشاركوا جميعًا في بنائه، لأكثر من عقدين.. وهاهم يجدون أنفسهم الآن مسؤولين عنه، بشكلٍ مباشر، وبعيدًا عن (المؤسس)، بشخصه، وبالوحيِ الذي كان ينزلُ عليه، لأول مرةٍ في حياتهم.

وإذ لم يكن في الوارد، بطبيعة قوانين الاجتماع البشري، قيامُهم بـ(هدم) هذا البناء، والعودة إلى ما كانوا عليه قبل وجوده، فقد كان الخيارُ الوحيدُ المطروح أمامهم يكمنُ فيما يتضمَّنُهُ مفهومٌ جديدٌ آخر فرضَ نفسهُ الآن (وقتَها) على الساحة، فكريًا وعمليًا.. إنه مفهومُ (الاستمرار).. بل ربما كان نوعًا من (التأسيس الثاني) بالنسبة لكثيرين.. كما سنرى حين نعود إلى هذا المصطلح لاحقًا.

لكن السؤال الكبير الذي كان يطرحُ نفسه تمثلَ فيما يلي: كيف يمكنُ أن يحدث هذا الاستمرار؟ ما هي العناصر الأساسية له، والتي يُمكن لهم استعمالُها، للإبقاء على البناء على الأقل، إن لم يكن لتطويره و(توسيع مساحته)؟

سُرعانَ ما تبلورت الإجابةُ في عنصرين..

(العقلُ) قائد لعمليات الاجتهاد والتفكير والتحليل والتعلَّم من تجارب الأقوام الأخرى، و(النقلُ) وسيلة للعودة إلى (النص) القرآني على طريق استلهام المقاصد الكامنة فيه، والتي وجدوا فيها أيضًا، بشكلٍ صريحٍ وواضح، دعوةً إلى (النظَرِ) و(التفكُّرِ) و(التعقُّلِ) و(السيرِ في الأرض).

من تلك اللحظة وُجدت ثنائية (العقل) و(النقل/ النص)، وظهرت حتميةُ وجود (علاقةٍ) ما بينهما.. وهي علاقةٌ استمرَّت، بكل المُلابسات المعروفة المرتبطة بها تاريخيًا، وستبقى مستمرةً إلى يوم الدين، كـ(حتميةٍ) من تلك الحتميات الموجودة في الحياة البشرية، والتي ستمضي معها ما بقيت تلك الحياة.

من أين جاءت هذه الثنائية؟ وكيف انقدَحت، عفويًا، لدى المسلمين، ثم فَرَضَت نفسَها عليهم بعد وفاة المؤسس؟

أولاً، بشيءٍ من التفكير البديهي في ماهية الجواب الممكن.. وهو تفكيرٌ يُرجَّحُ أنه حصلَ في لا وعيهم (عقلهم الباطن)، ولم يكن ممارسةً إراديةً عمليّةً واضحة المعالم.. وثانيًا، باستحضار تجربتهم مع الرسول على مرّ العقدين السابقين، وما تعلموه منه عبر معايشته في خضم آلاف المواقف والقضايا والمستجدات التي كان المجتمعُ الجديد يمرُّ بها، إن على صعيد الأحداث والتجارب الخاصة الفردية، أو على مستوى الوقائع ذات الطابع الاجتماعي العام.

لكن أهمَّ ما يجب التأكيد عليه، والتذكيرُ به هنا، يكمنُ في حقيقة استحالة الهروب من وجود (العلاقة) بين طرفي المعادلة/الثنائية المذكورة.. وللمفارقة، حتى لمن حاولَ أو يحاول أو سيُحاولُ نفي واحدٍ منها على حساب الآخر، من المسلمين.

لا تهمنا هنا طبيعةُ تلك العلاقة، ولا أساليب وطرق ووسائلُ استخدامها.. ولا نكترث، الآن، بمن يزعمُ أنه انتصر على الآخر، من الطرفين، فيها.. المهمُّ أنها موجودةٌ.. وأنها وُجدت لتبقى مع الإنسان مادامَ على هذه الأرض.

كملاحظةٍ جانبية، يسري هذا، في رأينا، على جميع البشر من مختلف الأديان والعقائد والمذاهب والأيديولوجيات، بما فيها (أيديولوجية) الإلحاد! فلدى هؤلاء جميعًا عقولٌ يُفكرون بها.. لكن لديهم جميعًا، أيضًا، (نصوص) مكتوبة (نقلية)، يُعمِلون فيها عقولهم تلكَ، بشكلٍ من الأشكال، وبمستوى من المستويات، أيًا كان ذلك الشكلُ وهذا المستوى.

مرَّت على البشرية قرونُ ما قبل الميلاد وما بعده، والناس، من غير المسلمين، (عالقون) في هذه (العلاقة)، حتى وهم يعتقدون أنهم منفلتونَ تمامًا منها.. وستمرُّ مئات السنين بعد ذلك، على المسلمين، وهم في نفس الحال، رغم كل الأوهام التي أوحَت يومًا، ولا تزال توحي، للبعض، بأن أحد طرفي العلاقة، (العقل) و(النقل/ النص)، قد انتصر نهائيًا.

عودةً إلى مرحلة ما بعد وفاة المؤسس.. أمسكَ المسلمون (العقل) بإحدى اليَدَين، و(النقل/النص) بيدٍ أخرى، وبدأوا رحلة (الاستمرار) أو مرحلة (التأسيس الثاني).. اختلفت رؤاهم في كثيرٍ من القضايا والمسائل، وتطابقت في أخرى، وهم يتعاملون مع الوقائع المُستجِدّة، وبشكلٍ متسارعٍ أحيانًا، ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا.. وبدأ تاريخ الإسلام والمسلمين كلهُ، الذي تجاوز عمرهُ ألفًا وأربعمائة عام، وقاربَ عدد أتباعه المليارين، يرتسمُ باجتهادات بشرٍ، عاشت شريحةٌ صغيرةٌ جدًا منهم مع (المؤسس)، وفي ظل الوحي و(النص الأساسي)، ثلاثةً وعشرين عامًا فقط!

نحن، إذًا، بإزاء تجربةٍ (بشرية) نهايةَ المطاف.. ويالها تجربةً (بشرية)، تستحق المزيد من البحث والتحليل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store