Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

في حتمية مراجعة «العلوم الشرعية» «8»: في البدء كان «النص»

A A
بالنصف الثاني من العنوان أعلاه، يبدأ المستشار (عبد الجواد ياسين) أحد فصول كتابه (السلطة في الإسلام: العقل السلفي بين النص والتاريخ).

قد لا توجد واقعةٌ تاريخيةٌ تتعلق بفهم الكيفية التي أثَّرَ بها الإسلامُ في واقع المسلمين تحديداً، والبشرية جمعاء، أهمَّ من تلك المقدمة. يتضحُ هذا أكثر مع الشرح الذي قدّمهُ الكاتب بعد تلك الجملة. ننقلهُ بكلماتهِ المعبّرة، مع تعليقٍ على فقراته نأمل أن يزيد الأمر توضيحاً. فالكتاب كثيفٌ في معانيه، سيما لمن لا يقرأ هذا النوع من الكتب الفكرية. وهو واحدٌ من جملة كتب تُمثل المشروع الفكري للباحث المصري، خصَّصَ للبحث والتحليل فيها قرابة خمسة عشر عاماً، أنتج خلالها حتى الآن كتباً قليلة، لإعطائها حقها من الوقت والدراسة.

سيكون مفيداً هنا، على المستوى النفسي والعقلي والفكري، أن نتحدث قليلاً عن مسيرة الكاتب المذكور. فمنذ خمسة وعشرين عاماً، نشر ياسين كتاباً بعنوان: «مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة»! العنوان يحكي عن نفسه بوضوح. رغم هذا، لنقرأ فقرةً صغيرةً مُعبّرة عن فكرِ الرجل آنذاك يقول فيها: «لقد واجهَ الإسلام يوم جاء للناس في القرن السابع للميلاد مجتمعاً جاهلياً. وهاهو اليوم، مغربَ القرن العشرين يواجهُ مجتمعاً جاهلياً. السِّماتُ هي السِّمات، والصفات هي الصفات. خللُ العقيدة هناك، وخلل العقيدة هنا. وصور الشِّرك المتعددة هناك، يقابلها صورٌ جديدةٌ للشرك هنا...». إلى غير ذلك من أفكار يعرف القارئ النبيهُ مصدرَ إيحاءاتها.

والمغزى الذي (يُفترض) وصوله للقارئ هنا يتمثل في إمكانية حصول نقلاتٍ هائلة في تفكير البشر عندما يتعلق الأمر بفهمهم للإسلام. هذا حين يؤدي العقلُ دورهُ لدى هؤلاء، لجهة ممارسات النَّظر والتدبُّر والتفكير التي يحثُّ القرآنُ عليها باستمرار. هذا، مقابلَ التفسير الاختزالي الذي يسكنُ عقول مسلمين كُثُر لمثل هذه الظواهر، حين ينحصر ذلك التفسير في أمرين لا ثالث لهما: فإما أن صاحب النقلات المذكورة (انحرف) ذاتياً لألف سببٍ وسببٍ يجدها هؤلاء دون صعوبةٍ تُذكر، أو أنه باتَ فجأةً (عميلاً) يُباعُ ويُشترى لهدم الإسلام!

لكن كاتبنا يشرح، بعد رحلةٍ سنوات من التفكير والدراسة والتأمل، رافقتها نقلةٌ في فهم الإسلام ودوره في الحياة.. العبارة الواردة في العنوان كالتالي: «أعني أنه لم يكن ثمة إسلامٌ قبل النص. أي قبل الوحي الثابت بالكتاب والسنة. ومن هنا كان لابد أن ينتهي بنا التحليل الأخير إلى القول بأن الإسلام، ليس شيئاً آخر غير النص. وهو ما يؤدي بدوره إلى القول بأن الحجية في الإسلام ليست لشيءٍ سوى النص».

ربما كانت تلك حقيقةً منطقيةً بالفعل، لكننا سنستبق تحليل الكاتب بالقول إن هذا النوع من الارتباط الوثيق، أي كونَ الإسلام نصاً، خلقَ لدى العقل المسلم أزمةً واضحة على مدى الأيام. فمع عملية التضخم الهائلة لما باتت تُسمى (نصوصاً)، والتي يشرح الكاتب حيثياتها لاحقاً، ترسّخَ شعورٌ لدى ذلك العقل باستحالة انتماء شيءٍ من قضايا حياته الدنيا، مهما كانت طبيعتها، إلى الإسلام، ما لم يجد (إحالةً نصيةً)، بأي درجة، لتلك القضية إلى ما هو (منصوصٌ) بأي شكلٍ من الأشكال.

لم يَعُد المسلم، إذاً، ينطلق للتفكير بشؤون حياته والتعامل معها بطلاقةٍ وحيوية تنبثق من التوجيهات المقاصدية المبثوثة في النص الأصلي بمختلف الطُّرق. وعبر مَزجها بما هو (معروفٌ) للناسِ مُتعارَفٌ عليه بينهم، وماهو راسخٌ في فطريته السليمة، ومنسجمٌ مع مقاييس المنطق. لم يعد في هذا كلِّه بالنسبة إليه درجةٌ من (الحِجّية) التي تقنعه بأن فِعلهُ صوابٌ أو خطأ، أو، بالمصطلحات الشرعية: حلالٌ أو حرامٌ أو مكروهٌ أو مُستحب. أو أنه يقع ابتداءً في دائرة (الإباحة) الواسعة التي تُعتبر هي الأصل، مالم يثبت عكسُ ذلك. وإنما صرتَ تجده قلقاً متوجساً في أغلب أفعاله، لايهدأ له بالٌ حتى يجد (نصاً) مكتوباً، ولو في أحد مجلدات القرن الخامس أو السابع أو العاشر الهجري، أياً كان هذا (النص)، فالمهم أن يجد (نصاً).. ليرتاح..

لم تعد ثمة حياةٌ يمكن للمسلم، الذي يُسمَّى مُلتزِماً، أن يُمارسها دون التصاقٍ كثيفٍ دائمٍ بالنص، كأنهُ مُقيمٌ فيه. وهكذا، أصبحت الحياةُ في الواقع، عملياً، حياةً في النصوص. بات الدينُ نصاً، ونصاً فقط. وباتت النصوص، ذات العلاقة بالدين، ولو في فروع الفروع، باتت بنفسِها هي (الدين). لم يعد الدين (مُحرِّكاً) للحياة ودافعاً إلى الانغماس فيها بكل ما وضعه الخالق في الإنسان من حيويةٍ وتوثّب وانطلاق ونشاطٍ فكريٍ وعقلي وروحيٍ وجسدي. لم تعد مجالاً للإبداع والابتكار والتجربة، والتداول بين الصواب والخطأ، بحيث يعيش الإنسان بشريته بكل مكوناتها وعناصرها.

وهكذا، اختفت الحياة الحقيقية، باقتصادها واجتماعها وسياستها وثقافتها وآدابها وفنونها وصناعاتها وعلومها وبهجتِها وتجاربها، واختفت معها التوازناتُ التي يُمكن للإنسان أن يبحث عنها في تفاعله مع الحياة من جهة، ومع مقاصد الدين من جهةٍ ثانية، اختفت تدريجياً من واقع المسلم على هذه الأرض.

هذا ماقصدناهُ تحديداً عند الحديث عما فعله التدوين بالعقل المسلم في المقال قبل السابق. لم يكن المقصود، كما فهم البعضُ، بسذاجةٍ ينفيها سياقُ الحديث هناك، أن الكلام عن جملةِ أذكارٍ مأثورة تُعيد تذكير المخلوق بالخالق، وتؤكد الربط بمُسبِّبِ الأسباب.

كيف ظهرت وتطورت ملابسات عملية (الحياة في النص) المذكورة؟ هذا حديثُ المقال القادم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store