Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سهيلة زين العابدين حماد

مصطلح «حروب المرتدين» في مناهجنا الدراسية (2)

A A
بيّنتُ في الحلقة الماضية خطأ المُؤرِّخين القُدامى والمعاصرين بإطلاقهم مصطلح «حروب المرتدين» على حروب المتمرِّدين الممتنعين عن دفع الزكاة في عهد سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه-، كما بيّنتُ أيضاً أنّ سيدنا أبا بكر لم يُحارب الممتنعين عن دفع الزكاة لارتدادهم عن الدين، وإنّما لامتناعهم عن دفع الزكاة، فقد وُصفت هذه الحركات من الناحية السياسيَّة بأنَّها عصيان مدني وحركاتٌ انفصاليَّة عن الدولة الإسلامية في المدينة المُنوَّرة التي أسَّسها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي عودةٌ حقيقيَّةٌ إلى النظام القبلي الذي كان سائداً في الجاهلية. وبلاشك، هذه الحقائق التاريخية لم تغب عن مُعدِّي مناهج الدراسات الاجتماعية والمواطنة، ولكنهم استخدموا مصطلح «الردّة»، وقرروا أنّ محاربة سيدنا أبي بكر للممتنعين عن دفع الزكاة، كانت لارتدادهم عن الإسلام، وليس لعصيانهم للدولة وإثارة الفتنة، فالصّدِّيق لا يمكن أن يفعل ذلك، وهو يعلم أنّه لا توجد آية في القرآن تنص على قتل المرتد، كقوله تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)، وكذلك الآيات السابق ذكرها في الحلقة الماضية.

قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسير آية: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).. «كأنهم يقولون: لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم الله، ولم يصغ للنصح، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنّه لابد أن يعاقبهم الله، إما بهلاك أو عذاب شديد. فقال الواعظون: نعظهم وننهاهم (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) أي: لنعذر فيهم. (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر: ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل الله أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر والنهي».. انتهى.

فالآية لم تنص على معاقبة المرتدين بالقتل، وإنّما تنص على معاقبة الله لهم بهلاكٍ أو عذابٍ شديد، والشيخ السعدي أوضح هذا في تفسيره للآية ولم يُخالف كلام الله بالقول بقتلهم، كما جاء في بعض المرويات المنسوبة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام التي تقول بقتل المرتد، والرسول لا يخالف القرآن، فتلك المرويات لا تتفق مع الآيات الكريمات السابق ذكرها التي لا تنص على قتل المرتد، فالسُنّة الصحيحة لا تناقض القرآن، ومن قواعد صحة المتون المتفق عليها من قبل علماء الحديث، أن يكون متن الحديث موافقًا للقرآن، وتلك الأحاديث مخالفة له، فكيف نأخذ بها لمجرد ورود بعضها في الصحيحين رغم مخالفتها الصريحة للقرآن؟، ولكن، تَرَكَ أُولئك القائلون بقتل المرتد، كلام الله، وأخذوا ببعض الروايات المنسوبة إلى الرسول صلوات ربي وسلامه عليه، المخالفة للقرآن كرواية البخاري: «من بدّل دينه فاقتلوه»، لورودها في الصحيحين!!

فالاجتهادات بقتل المرتد لا داعي لها، حيثُ لا اجتهاد مع النص، وتوجد لدينا نصوص قرآنية كثيرة حسمت القضية، ولم تنص على تطبيق حد القتل على المرتد، فالإسلام أقر بحرية العقيدة، وعدم الإكراه في الدين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فهذا المرتد قد يعود إلى الإسلام، وكثر الذين ارتدوا وألحدوا، ثم عادوا إلى الإسلام مرة ثانية.

إضافةً إلى مخالفة هذه الأحاديث للواقع التاريخي، فهي لا تتفق مع واقع الأحداث وقتها، ولا مع «صحيفة المدينة» التي تضمَّنت بنودها احترام حرية الدين لسكان المدينة على اختلاف دياناتهم.

فاستخدام مصطلح «حروب المرتدين» ساعد جماعة الإخوان، وما انبثق عنها من منظمات وجماعات إرهابية مسلحة مثل القاعدة وداعش في تكفير المسلمين وتبرير قتلهم بمُبرِّر ردّتهم، لبسط نفوذ تلك الجماعات على أراضٍ عربية وإسلامية لإعلان قيام ما أسموها بدولة الخلافة، والتي هي ضد الدولة الوطنية، وهذا يتعارض مع النظام الأساسي للحكم، ورؤية المملكة 2030، وأهداف هذه المناهج فيما يختص بتنمية الحس الوطني، فلابد من إعادة النظر في المصطلحات التاريخية، والتحقق من صحتها بدلًا من ترديدها بأخطائها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store