Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

في مراجعة «العلوم الشرعية» «10»: كيف يعمل النص «الثابت» في الزمان «المتغير»؟

A A
تُصرُّ غالبيةٌ كُبرى من المسلمين، وبقيادةٍ وتوجيهٍ، وتأثيرٍ تاريخيٍ ومعاصر، ممن يضعون أنفسهُم موقعَ (المُوقِّعين عن ربّ العالمين).. على أن النص ثابت.

للنصِّ تعريفات مُختلفة دون شك. لكن التعريف السائد الذي ترسَّخَ، ويترسّخُ، في وجدان عامة المسلمين فوضويٌ ومُختلطٌ وهيوليٌ لأقصى الدرجات. وهو يمتدُّ على مساحةٍ تبدأ بالنص القرآني، ولا تكاد تقف عند جزئيةٍ من فروع الفتاوى والأحكام الموجودة في كتب التراث الإسلامي على مدى قرون.

ما الذي أوصَلنا لهذا؟

ثمة مواجهةٌ صريحةٌ وضروريةٌ هنا. إذ لو سألتَ شريحةً واسعةً من أولئك، (الموقِّعين) العتيدين، عن الموضوع بشكلٍ مباشرٍ وجانِبي (بينكَ وبينهم).. فإنهم سيؤكدُون لك أن التعريف (ينحصرُ) في الحديث والسنة، طبعاً!

لكن واقعَ الحال، حين يتعلق الأمر بدروسهم وفتاواهم وكُتُبهم وتصريحاتهم و(إطلالاتهم التلفزيونية).. يُناقض ذلك. يَحدثُ هذا من قِبَلِهم بكل عفويةٍ وبساطةٍ (وكَسل)! حيث يَندرُ جداً أن يُحيلَ هؤلاء إلى النصوص التي يؤكدون، نظرياً، أنها هي (النصوص)، بالتعريف الذي يهمسون لك به. وفي مقابل ذلك، تراهم في كل تلك الدروس والفتاوى والكتب والتصريحات يقفزون، بعد التلفظ بالشهادة والصلاة على رسول الله بصوتٍ خطَابي جَهورٍ ورزين.. يقفزون إلى كل ما يرِدُ في البال من فتاوى وأحكام جاءت في كتب التراث تلك. والطريف/المفارقة في القضية أنك تراهم، بدعوى الموضوعية تارةً، والإيحاءِ بواسع عِلمِهم تارةً أخرى، ينتقلون من فتاوى مذهبٍ لآخر، ومن آراء فقيهٍ في القرن الرابع إلى آراءِ آخر في القرن الثامن، لاستيفاء مقولاتهم في موضوع السؤال! وكفى الله (النصوص) القتال!

من هنا يقول عبد الجواد ياسين: «إذا نحنُ نظرنا إلى الطريقة التي انتُهجت في علاج [مسألة تعامل الثابت/النص مع المتغير/الواقع] على يد العقل الفقهي السلفي، والآثار التي ترتّبت على ذلك، فسوف تُدهِشُنا النتائج إلى حدٍ بعيد، وذلك بالنظر إلى حجمها وقوتها وامتدادها في الزمان. فلقد تمثّلت هذه النتائج باختصار، في إنشاء المصادر غير النّصية، التي وُضِعت إلى جوار النص، جنباً إلى جنب، كأصول يُستمدُّ منها التشريع ومنابعَ تُستنبطُ منها الأحكام».

نعودُ مرةً أخرى إلى الحديث عن مفهوم (النص) بشكلٍ عام، والملابسات التي أحدَثَها التعاملُ مع (الإسلام) على أنه (نصٌ لغوي بحت) بشكلٍ مباشر وغير مباشر. وهي مسألةٌ حساسةٌ جداً لايزال، حتى بعض المثقفين، يغفلون عن إشكالاتها المتشعّبة، بدقّة.

عودةً لكلام الكاتب الذي نأمل أن يُلقي ضوءاً أقوى على الموضوع: «لقد ظل العقل الفقهي السلفي منذ ما قبل الشافعي وحتى جاء الشاطبي في القرن الثامن ينظر إلى (النص) على أنه بِناءٌ من الألفاظ والجُملِ والتراكيب، قبلَ أن يكون عالَماً من الأحكام والنُّظُم والمَقاصِد. وهو ماجعلَ النشاط الفكري داخل هذا العقل.. نشاطاً وحيد الاتجاه». ثم يُكمل المستشار نقلاً عن عابد الجابري ما نحسبهُ تحليلاً يستحق التفكير: «.. [إنه نشاطٌ] وحيد الاتجاه، يتجهُ دائماً من اللفظ إلى المعنى، كما في عِلم اللغة وعلم النحو وعلم البلاغة. صحيحٌ أن الأحكام الشرعية إنما تُؤخذُ من أدِلّتِها، وأهمُّ هذه الأدلة وأصلُها القرآن. غير أن الأصوليين انساقوا انسياقاً كبيراً مع إشكالية اللغويين والنُّحاة... فكانت النتيجة أن شَغَلتهُم المسائل اللغوية عن المقاصد الشرعية، فعمَّقوا في العقل البياني (وهو ما نُعبِّرُ عنه بالعقل الفقهي) خاصيتين لازَمتَاهُ منذ البداية: الأولى هي الانطلاق من الألفاظ إلى المعاني، ومن هُنا أهميةُ اللفظ [الهائلة] ووزنهُ [المُتضخّم] في التفكير البياني [الفقهي]. والثانيةُ هي الاهتمام بالجزئيات [التي تَرتبطُ حُكماً بما أسموه نصاً، وهو الفقه] على حساب الكُلّيات».

تصوروا، لتقريب المثال، أن يَنزل الوحي من السماء على الرسول الكريم. ثم أن يكون كل ما يفعلهُ، عليه الصلاة والسلام، أن يذهبَ لقومهِ ويُبلّغهم بألفاظِ الوحي وكلماته وتعابيره. وبعدَها يقولَ لهم: تدبّروا أمركم! أنتم أهل اللغة والبيان، وهذا هو وحيُ الله. بدلَ أن يعيش معهم مقاصدَ التنزيل في كل تفاصيل حياتهم اليومية، بطريقةٍ تُبينُ مُرادها عملياً، وتتضمنُ كل مايمكن من حيويةٍ وتفاعل مع تلك التفاصيل ومتغيراتها.

بشيءٍ من التشبيه. يبدو كلامُنا أعلاه قريباً مما حصل تحديداً في معرض التعامل مع النص القرآني بعد ذلك، تدريجياً، وتحديداً مع بدء عصر التدوين. لكن الفارق هنا أن أصحابَ السِّيَر والمفسرين والفقهاء تلبّسوا المنهج اللغوي البحتَ المذكور، وطَفِقوا يُوسِّعون مساحات إنتاجهم وفتاويهم باضطراد، بعيداً عن المقاصد والكُلّيات، حتى (أَغرقوا) العقل المسلم نهاية المطاف، قَصدوا ذلك أو لم يقصدوهُ، بركامٍ هائلٍ يَستغرقُ تفاصيل الحياة اليومية.

وأخطرُ ما في الأمر أن ذلك كله حصل بـ(حُسنِ نيةٍ) أضفَت على الموضوع بأسرهِ مَسحةً إيجابيةً عاطفية، صادَرَت كل إمكانيةٍ للمراجعة، خاصةً لدى ذلك العقل الذي أُلبِسَ هاجسَ مقولة (النية الطيبة) التي تكادُ تجبُّ كل خطأ، وتُميّعُ أي طلبٍ يتعلق بضرورة المراجعات.

ماحصلَ نهاية المطاف، ولانزال نعيش آثارهُ المأساوية كمسلمين، يتمثل في الغفلة عن رؤيةٍ أخرى مختلفةٍ جذرياً، كان يمكن لها أن تبث روحاً في النص، وأن تُغيِّر التاريخ: «رؤيةٍ أخرى للنص باعتبارهِ عالَماً من الأحكام والنُّظُم والمقاصد [التي] تَفرض على صاحبها، إلى جانب الآلة اللغوية، استخدام أدوات تفكيريةٍ وعقليةٍ هي بالتأكيد، أوسعُ من العلاقة الرأسية العمودية بين اللفظ والمعنى، والتي [كان] من شأنِها تكريس النظرة [التي سادت بعد ذلك وهي النظرة] المُفتّتهُ للنص والأحكام المُستخرجة منه».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store